الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مائدة طعامك التي تقرأ مستقبل العالم

علّمتْنا تجاربُ كثيرة في الحياة أنّ الأمثلة الشاخصة أكثر تأثيراً في مفاعيلها من المقولات المجرّدة. كلّما نظرتُ في مصدر الطعام الموضوع على مائدتي غمرَني إحساسٌ بأنّ هذا الطعام يمكنُ أن يكون حكاية كاملة عن موقعنا الستراتيجي في هذا العالم.

الستراتيجية حكاية قديمة بدأت مع الصيني (صن تزو Sun Tzu) الذي كتب أنّ الحرب إمتدادٌ للسياسة بوسائل أخرى. منذ عهد صن تزو وحتى اليوم تلوّنت الستراتيجية بألوان كثيرة إستوجبتها المؤثرات المستجدّة في العلم والتقنية والمقدرة الإقتصادية وتنوّع مصادر السياسة الناعمة للدول؛ لكنْ يبقى للطعام الموضوع على مائدتك سطوتُهُ الستراتيجية التي لم تتبدّلْ ولم تكن يوماً ميدان مساومات.

قال لينين في ذروة حماسته الثورية أنّ الشيوعية = الكهرباء +السكك الحديد. ربما كان لينين مصيباً في أيّامه لكنّي أراه تغافل عن أهمية الزراعة. ربّما تكلّم مدفوعاً بدوافع إقتضتها السياسة المرحلية إزاء الحركات المضادة حينذاك؛ لكن يبقى ما يديمُ حياة البشر ويزوّدهم بأدنى السعرات الحرارية اللازمة لإستمرارية الحياة البشرية موضوعاً لا يقبل المساومة في عهد لينين وفي كلّ العهود اللاحقة له. ربّما حسب لينين أنّ الزراعة أمرٌ مفروغ منه ويعدُّ من قبيل المسلّمات التي في قبضة اليد، حالُها في هذا حالُ الهواء الذي نستنشق. هذا خطأ كبير. ما نحسبهُ في عداد المسلّمات قد ينقلبُ يوماً ليصير في عداد الأسبقيات التي لم نتحسّبْ لها.

ظلّت الزراعة في بلدنا أقرب لأغنية نتغنّى بها أو موضوعاً يصلح لموضوعات الإنشاء المدرسية. (الزراعة نفط دائم): هذا ما تغنّينا به طويلاً وأضفنا له مطيبات إنشائية من قبيل أنّ من لا يزرع لا يأكل، وها نحن اليوم إنتهينا لأن نستورد كلّ طعامنا. المصيبة الأكبر كانت الرغبة المحمومة في إشاعة ما يؤكّدُ أنّ التركيز على الزراعة إنّما كان مؤامرة من جانب (الإستعمار!!) لإبقائنا متخلّفين في التصنيع. ربما ذهب بعض المتحذلقين الإقتصاديين شوطاً أبعد في تسويغ هذه الفكرة المختلّة فقالوا أنّ الزراعة غيرُ قادرة على توفير الرأسمال الوطني القادر على الإرتقاء بالإقتصاد الوطني. يمكنُ مواجهة هؤلاء بسؤاليْن مباشريْن: هل ثمّة دولة عظمى في قدراتها التصنيعية تستوردُ غذاءها؟ ثمّ ماذا لو جاعت البطون لأيّ سبب كان؟ هل سيبقى بعدئذ من يتحذلق في الحديث عن تمكين الرأسمال الوطني؟ ثمّ لنتصوّرْ أنّ أسعار الغذاء العالمية إرتفعت إرتفاعات جنونية لأسباب حقيقية أو مصطنعة مثلما حصل مع الطفرة النفطية في سبعينات القرن الماضي؛ فماذا سيحدث لو كنتَ مستورداً للغذاء؟ سيدفعك الإضطرارُ رغماً عنك لتوجيه معظم مواردك المالية لإستيراد الغذاء، وحينها تحذلَقْ كما تشاء في هرطقاتك الإقتصادية. لا أحد سيستمعُ إليك وبطنُهُ خاوية.

الزراعة أعظم من النفط. قد يكون للنفط بدائل؛ لكنّ الزراعة لا بدائل لها إلّا في حكايات الخيال العلمي أو بعدما ننجحُ في جعل طعامنا أقراصاً مصنّعة، وهو المشهد الذي يبدو بعيداً ولا أحد يميلُ إليه. الطعام ليس محض عناصر غذائية بل هو ممارسات ثقافية وصحبة بشرية وإحساسٌ بقوة العلاقة التفاعلية مع الطاقة الكونية. ليس هذا غريباً؛ فكلنا قرأنا عن الطفرة الحضارية التي جاءت بها المجتمعات الزراعية على كلّ الأصعدة. الزراعة قرينة القانون والنظام والإنضباط والشعور بأهمية العمل.

ما مِنْ دولة عظمى في عالمنا ليس لها زراعة واسعة ومنوّعة، ولو عرفَتْ أنّها مرغمةٌ على إستيراد بعض الغذاء لفعلت أقصى ما يُستطاع لزراعة ذلك المنتج على أراضيها بدلاً من إستيراده حتى لو تطلّب الأمر أكلافاً أكبر من الإستيراد. فكّروا معي مثلاً في مثال روسيا الإتحادية: هي واحدة من أعظم مصدّري القمح والحبوب في العالم، وهذا أحد أسباب قوتها الإقتصادية، وقد خَبَرْنا هذه القوة عندما لم يصل القمح الروسي الأسواق العالمية بعد الحرب الروسية- الأوكرانية. الإقتصاد الروسي مثلث قائم على النفط والغاز والحبوب والمعادن النادرة. لن يكترث الرئيس الروسي بأنّ بلاده لا تصنّعُ الرقائق Microchips أو السيارات الفخمة أو الحواسيب والهواتف النقالة إذ ليست روسيا مثالاً ناشزاً في هذا الشأن. كثيرةٌ هي الدول التي لا تصنّعُ الرقائق؛ لكن بوتين لن يقبل أن تهتزّ مقدرة بلاده في إنتاج ملايين الأطنان من الحبوب كل عام. لو حصل هذا أظنّه لن يعرف كيف ينامُ ليله لأنّه يدركُ أنّ مسمار النعش الذي يمكنُ أن يُدَقّ في روسيا يبدأ من كبح مقدرتها في إنتاج الحبوب. الأمر ذاته يحصل مع بلدان أوربا. الدانمارك مثلاً وهي إحدى البلدان المعروفة بجودة معايير الحياة فيها، ما هو عمود قدرتها الإقتصادية؟ إنّه الزراعة. لم تصنع الدانمارك سيارات مثل مارسيدس، ولم تصنع حواسيب مثل hp أو Dell ولا ترى في ذلك حاجة لأنّ أكلاف التصنيع ستكون أكبر من أحجام المستوردات؛ لكنّها لن تقبل المساومة على قدراتها الزراعية المتقدّمة. هذه بوضوح مسألة حياة أو موت.

قلت أنّ حُجّة هؤلاء الذين رأوا في الصناعة سبيلاً لتحقيق الفوائض المالية اللازمة للنهضة الشاملة هي أنّ الزراعة لا تحقق فوائض مالية كبيرة. هذه حكاية من ماضٍ بعيد. اليوم يمكن أن تتفوّق مداخيل الزراعة على صناعات كبرى. تصلح الدانمارك الصغيرة -بسكّانها الذين لا يتجاوزون بضعة ملايين- مثالاً. إقتصادها السنوي يبلغُ تخوم النصف ترليون دولار، وأغلبه يتحقق من الزراعة. الأمر الثاني أنّ عنوان عصرنا اليوم في جانبه التقني هو الخوارزميات والذكاء الإصطناعي، وهذا -بخلاف كلّ التقنيات السابقة- لا يقوم على الرأسماليات الكبيرة. يكفي أن تمتلك حاسوباً وخطّ إنترنت لكي تساهم بإنعطافة ثورية كبرى في هذه التقنية، وتاريخ هذه التقنية يؤكّدُ لنا هذا.

الخوارزميات والذكاء الإصطناعي ليسا بديلاً عن الزراعة. كلّما أطلتُ النظر في الطعام الموضوع على مائدتي تملّكني الرعبُ ممّا يخبّئه المستقبل للعراق. مائدة الطعام أقرب لرقعة شطرنج ترى فيها موازين القوة الستراتيجية للدول، وهذه الرقعة هي التي ستخبرك بما ينتظرُ بلداً بات يستوردُ كلّ ما يأكله.

كم نحنُ منكشفون ستراتيجياً ومخذولون سياسياً ومنسيّون في الهوامش، نتلهّى بيومنا من غير قراءة خريطة المستقبل. نحن مقامرون لا نجيد سوى إضاعة الفرص في تنمية حقيقية. نعيش اليوم ولا نفكّرُ في الغد. إنها مقامرةُ مَنْ يستعجلُ رؤية الخراب يستوطنُ دياره. لماذا يستعجلون الخراب المحتّم؟ فكّرْ في هذا وستنكشف لك خفايا يرادُ وأدُها في دوّامات الحاضر الذي صارت فيه الطماطة والخيار فقرة كبرى في جدول مستورداتنا السنوية.

المدى

  كتب بتأريخ :  الأحد 20-04-2025     عدد القراء :  372       عدد التعليقات : 0