الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العدالة الدولية تحت المطرقة (3)

كان الأمريكان والدول الغربية في غاية الرضا عن الدور الذي كانت تؤديه محكمة الجنايات الدولية (ICC). فقد نشطت المحكمة في ملاحقة بعض الجرائم الدولية، ومنها جرائم بعض القادة الصرب في الحرب التي تفجرت بعد تقسيم يوغسلافيا ومنهم سلوبودان ميلوسوفيتج، ورادوفان كاراديج، ولاتكو ملاديج، وهم شخصيات مناهضة للغرب تورطت بجرائم أثناء تلك الحرب الأهلية. وقد توفي الأول في سجنه وحُكم الإثنان الآخران مدى الحياة عن تهم الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، في عامي 2016 و2017 بعد محاكمات طويلة.

أما محاكمة مجرمي الإبادة في رواندا فقد جرت في محكمة خاصة بناءً على قرار من مجلس الأمن الدولي في عام 1994 وليس في محكمة العدل الدولية، التي بدأت عملها بعد ذلك التاريخ في أواسط عام 2002 إثر دخول نظام روما الأساسي حيز النفاذ.

في وقت لاحق، في فترة أول مدعي عام للمحكمة الجنائية، القاضي مورينو أوكامبو من البرتغال، كلّف مجلس الأمن الدولي، المحكمة بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبت في دارفور في السودان وكذلك في ليبيا. أصدرت المحكمة إثر ذلك مذكرات قبض بحق الرئيس السوداني عمر البشير، الذي أطيح به لاحقاً وحكم عليه في الخرطوم، وبحق معمر القذافي، الذي قتل على يد الليبيين قبل تسليمه للمحكمة، وأبنه سيف الإسلام الذي يعتبر هارباً. هذا الى جانب عدد آخر من المطلوبين في أفريقيا وأماكن أخرى.

كانت إحالة مجلس الأمن الدولي لقضايا محددة الى المحكمة الجنائية الدولية أوضح تعبير يؤيد فيه الغرب، ولاية المحكمة الجنائية في ملاحقة المتهمين بجرائم دولية.

بعد انتخاب القاضي كريم خان لمنصبه في المحكمة الجنائية، استمر الدعم الغربي للمحكمة. ولم يقصّر الرجل في إغراء داعميه، فأصدرت المحكمة مذكرة قبض بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسيدة روسية أخرى اتهمت بخطف أطفال اوكرانيين أثناء الحرب بين البلدين.

كان إصدار القرار ضد بوتين من أكثر قرارات المحكمة إثارةً للارتياح في الأوساط الغربية، ليس فقط بمضمونه بل بالسرعة التي أنجز بها الملف، مقارنةً بالملفات الأخرى. فقد أعلن الكثير من القادة، بمن فيهم الرئيس الأمريكي جو بايدن وأعضاء في الكونغرس الأمريكي بأنهم يدعمون المحكمة الجنائية الدولية وإجراءاتها ضد الرئيس بوتين. علماً بأنه سبق للولايات المتحدة أن فرضت عقوبات على المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية التي سبقت كريم خان، القاضية فاتاو بن سودا ونائبيها بسبب البدء بالتحقيق بجرائم حرب محتملة في أفغانستان وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ظهر للكثيرين، وأنا منهم، بأن اتجاهاً قد تبلور في الأوساط الغربية باعتبار المحكمة الجنائية الدولية سلاحاً في عالم ما بعد الحرب الباردة ضد الخصوم، واستخدامها سياسياً بعد مثول العديد من مناهضي الغرب أمامها والحكم على بعضهم.

لا أخفي شكوكي -حينها- بأن المحكمة انحازت لخدمة مصالح معينة، برغم أن كثيراً من المتهمين كانوا قد ارتكبوا جرائم يستحقون بسببها الاعتقال والسجن. وبهذا المنحى يمكن تأشير ثلاثة أحداث: الأول هو أن المحكمة أنجزت في عهد القاضية فاتوا بن سودة، تحقيقات المرحلة الأولى في جرائم اسرائيل في الأراضي المحتلة، وكان ينبغي على خليفتها السيد كريم خان اتخاذ إجراءات بصددها. لكنه احتفظ بالأمر في درج مكتبه لمدة طويلة، وصلت الى حد الشكوك بتواطؤه، أو خوفه من مواجهة الصهيونية العالمية. والثاني هو استخدام الضغوطات على صربيا -مثلاً- لتسليم ميلوسوفيتج وجماعته، إذ اتخذت في إحدى وجوهها شكل إغراءات مادية بالتحاق صربيا بالغرب واعتبارها دولة "ديمقراطية"، مما سهّل حسم الصراع الداخلي لصالح الموالين للغرب في صربيا. والثالث هو سرعة إصدار مذكرة اعتقال فلاديمير بوتين، وهذا ما عزز الدعم الغربي للسيد كريم خان.

لكن الدعم الغربي انقلب رأساً على عقب بعد إقدام القاضي كريم خان على طلب القبض على بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بتهمة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. جرّب القاضي كريم خان ادخال توازنٍ ما على طلبه وذلك باتهام ثلاثة فلسطينيين، مقابل اثنين من اسرائيل، فأدرج أسماء قادة حركة حماس: إسماعيل هنية، الذي اغتيل في طهران، ويحي السنوار، ومحمد الضيف اللذين قتلا في غزة.

من المفيد ذكره أن إسرائيل كانت قد وقّعت على نظام روما الأساسي، لكنها لم تصادق على الاتفاقية. وفي فترة لاحقة طلبت بكتاب رسمي سحب توقيعها على نظام روما الأساسي. وكان ذلك مؤشّراً على نواياها وخوفاً من أن تطالها ولاية المحكمة بسبب أفعالها الإجرامية. لكن دولة فلسطين اكتسبت عضوية المحكمة منذ 2014، وأوجدت الأرضية المناسبة لاتهام نتنياهو ووزيره بجرائم دولية.

إن المطالبة بإلقاء القبض على نتنياهو، وبرغم انها جاءت بعد مرور ثمانية أشهر على مذبحة غزة، انطوت على قدر كبير من الشجاعة، وكان واضحاً بأن اتهام قادة صهاينة يشبه السير في حقل ألغام. وبالفعل تعرض القاضي كريم خان الى ضغوط وتهديدات جمّة لحمله على الامتناع عن ذلك الفعل الخطير على حياته، المهنية على الأقل، وعلى مصير المحكمة الجنائية الدولية نفسها. لكنه صرّح بجرأة "بأن المسؤولين الإسرائيليين ليسوا فوق القانون" وفي إجابته على مقترح "تأجيل التحقيق" أجاب بأنه لا يستطيع الانتظار "حتى يموت الجميع".

وقد عبّرت هيئة المحكمة عن ذلك الإصرار وأصدرت أوامر القبض في نوفمبر 2024، أي بعد ستة أشهر على صدور طلب المدعي العام. وظهر أن قادة الغرب، أو المدعومين منه، ليسوا في مأمن إذا ما ارتكبوا جرائم دولية!

  كتب بتأريخ :  الأحد 20-04-2025     عدد القراء :  321       عدد التعليقات : 0