أنابيب البترول تمتد كأذرع الأخطبوط في بلد يتحوّل فيه كل شيء الى رمال، والملك ميداس المؤمن بالله ورسوله وآل بيته الطيّبين الطاهرين واليوم الآخر، يمدّ يده الى النفط فيتحوّل الى ذهب يدخل حساباته البنكية، والأخرى تمتدّ الى رؤوس المؤمنات والمؤمنين فتحوّل حياتهم الى تراب ليتأسّوا مثلما يقول الملك ميداس المؤمن بأبي تراب وزهده!!!
لم يكتفي الملك ميداس المؤمن بإحتكاره للنفط والمرافيء والمنافذ الحدودية وما يدخل ويخرج من خلالها، ولا بأمتلاكه للمستشفيات والمدارس والجامعات والمدارس والطائرت والمزارع والمصانع، بل طلب من المؤمنات والمؤمنين المعدومين والجوعى أن يدفعوا له الأتاوة ، والتي هي عشرون بالمئة ممّا يملكون وإن كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، كونه يستحصلها رغم أنفهم بقانون مقدّس، متسلّحا بجيوش من "شعيط ومعيط وجرّار الخيط" الذين يحكمون البلاد بإمرته ويذيقون أهلها الذلّ والعذاب.
في أحدى المدن المقدّسة من إقطاعيات الملك ميداس دام ظلّه الوارف، دهست عجلة مظلّلة رباعية الدفع طفل يبيع المحارم عند الإشارات الضوئية، فتجمهر الحفاة ونقلوه في تك تك مجهزّ بكل أدوات الموت الى مستشفى الملك ميداس "الخيري"، هذا المستشفى الذي بناه الملك بأموال هؤلاء الحفاة التي سرقها رجاله. عند باب المستشفى أوقف رجال غلاظ كريهي المنظر، الطفل المصاب ومن معه من الأطفال مدمني الشوارع والأرصفة بحثا عن لقمة خبز في بلد يمتلك كل مقوّمات النجاح التي حوّلها رجال الملك الى خرائب تنعق فيها جكساراتهم المحمّلة بالفاشنيستات الى غرف نوم، مجهزّة وكأنّها علب ليلية بكلّ ما لذّ وطاب.
قف قف، قال احدهم وكأنّه حرس عند باب نظام أحدى المعسكرات وليس مستشفى، فقال له أحد الأطفال: أرجوك أن تعالجوا أخي الصغير الذي دهسته سيّارة مسرعة، ليجيبه ذلك الجلواز قائلا: أذهب الى الأستعلامات وأدفع مالا تحت الحساب، أو أستدعي صاحب السيّارة التي دهسته ليدفع مصاريف علاجه!! نحن لا نملك مالا ولا أعرف أين ذهب صاحب السيّارة التي دهسته، ولكنني سمعت من أنّ هذه المستشفى تكفل الأيتام والفقراء أمثالنا فجئت بأخي اليها. فدفعه الجلواز قائلا أرحل من هنا على الفور، لكنّ الطفل تشبثّ فجأة بيد الجلواز قائلا: هذه السيّارة الواقفة هناك هي التي دهست أخي وآثار الدماء لازالت عالقة بها، فأذهبوا إلى صاحبها عسى أن يقوم بدفع المصاريف، لكن الطفل رأى نفسه فجأة وسط عشرات الجلاوزة الذين أتّهموه بالإساءة للملك ميداس صاحب السيّارة ومالك المستشفى وأشبعوه ضربا.
عاد الطفل الى التك تك فرأى أخيه جثّة هامدة وبيده ورقة يطالبهم فيها بدفنها معه في قبره، فأنطلق التك تك الى وادي السلام. وفي حفرة حفرها الأطفال بأظافرهم، وضعوا فيها الجثّة وأهالوا عليها التراب ورحلوا. ومع غياب شمس ذلك اليوم حضر الملكان منكر ونكير الى حيث لحد الطفل لأستجوابه قبل أن تأتي "لجنة التحقيقات لتوزع عليه قسيمة الأسئلة" كما كلّ الموتى و التي عليه الأجابة عليها بكل صدق والا... .
الطفل شبه العاري والخائف وقف معقود اللسان أمام هول المنظر والملكان ينظران اليه شزرا:
الملكان: من ربّك..؟
لم يردّ الطفل من وقع المفاجأة ، فسألاه ثانيّة وبنبرة فيها الوعيد، من ربّك..؟
الطفل بعد أن أستوعب الموقف قال ربّي من يمنحني كسرة خبز !!
فلطمه أحدهما قائلا: أيّها الكافر الا تعرف ربّك..!؟
الملكان: من نبيّك..؟
الطفل: لا أدري، لكنني أعتقد أنّ أي رجل يمسح على رأسي بحنان ويكسيني هو نبيّي، فلُطِمَ من جديد.
الملكان: ما هو دينك..؟
الطفل: ديني هو أن أشارك أخوتي ما معي على فقره، فلطُم من جديد.
الملكان: كيف كان عملك في هذه الدنيا؟
الطفل: أنا أبيع المحارم عند الأشارات الضوئية...
الملكان: يلطمانه من جديد قائلين، عملك يعني ماذا فعلت في حياتك؟ هل سرقت، هل قتلت، هل خنت الأمانة، هل أغتصبت؟
الطفل: لو كنت قد سرقت لما كنت أبيع المحارم في الشوارع، لتدهسني سيّارة مظلّلة رباعيّة الدفع، ولو قتلت لكنت اليوم في عداد رجال الملك، ولو كنت خائنا للأمانة لكنت اليوم خائنا لبلدي ومرشّحا مستقبليا لمجلس أعيان الملك، أمّا الإغتصاب فلا أعرف منه شيئا، الّا طفولتي كانت مغتصبة بعد أن أغتصب رجال الملك ميداس دام ظلّه الوارف "قالها بتهكّم" حياة الفقراء الذين أنتمي أليهم.
قبل أن يردّ الملكان على الطفل، هبط الملاك جبريل إليهم حاملا رسالة شفهية من الله قائلا لهما، أسألاه عن الرسالة التي في جيب ثيابه الممزّقة ولماذا يخفيها..؟ فأجاب الطفل من أنّها رسالة عتاب الى الله، اسأله فيها عن سبب جوعي وفقري ومرضي، وأعاتبه لأنّه أعطى الملك ميداس الحق في أن يمتلكني وملايين الفقراء كونه من أرومة "مقدّسة"، أعاتبه لأنّه منح الملك صكّا بأستعبادي. ألست طفلا أيها الملاك الطيّب "موجها كلامه الى الملاك جبريل" كما أطفال الملك ورجاله، أليست أمّي كما نساء الملك ورجاله، بلى أجاب جبريل، فردّد الطفل آية "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"، لكنّ الملك وحاشيته أيّها الملاك الطيّب سرقوا رزقي وهم في غنى مستمر، لأنّ الله "يرزق من يشاء بغير حساب"، وتريدونني أن لا أبعث لله عتابا!!!
أيها الملاك الرحيم، خذ هذه الرسالة التي فيها عتبي الى الرب كما عتاب (حسن) (*)، وأخبره من أنّ جيوش الأيتام والأمّهات الثكلى يرسلون له عتابهم محملّ على الأسمال والعباءات السود التي فقدت لونها لقدمها، عتاب أطفال هدّهم الفقر والمرض، عتاب أمّهات باعن اجسادهن في سوق المتعة والنخاسة في بلد يحكمه ظل لله إسمه الملك ميداس، وموعدنا يوم الحشر حيث المليارات سيرفعون للرب عتابا.
نم قرير العين يا موفّق، فليس حسن لوحده يهيئ للرب عتابا، فها نحن العراقيين نترجم جوعنا وبؤسنا عتاباً للربّ كما هذا الطفل وغيره الآلاف...
(*) حسن ، صديق الشاعر الراحل موفق محمّد الذي هيأ في قبره للربّ عتابا...