في زمن تتزاحم فيه الضوضاء على المعنى، ويغلب فيه الاستعراض على القيمة، يجيءُ تكريم فخري كريم بوصفه "شخصية العام الإعلامية" في قمة الإعلام العربي بدبي (2025)، ليُعيد الاعتبار للكلمة الجادة، وللصحافة التي لم تنكفئ رغم الأزمات، ولم تساوم رغم الإغراء.
هذا التكريم لا يُنصف فرداً فحسب، بل يُنصف سيرة فكر ومسار ثقافة. إنه اعتراف بمشروعٍ استثنائيٍ نهض به فخري كريم، لم تكن فيه الصحافة مجرّد مهنة، بل كانت فعلاً تحررياً، وخياراً وجودياً في الدفاع عن الكلمة الحرّة، والإيمان العميق بأن الثقافة صوتٌ للمجتمع لا صدى للسلطة. على امتداد عقود، اختار أن يقف إلى جانب العقل، وأن يجعل من الإعلام منبراً للتنوير، لا أداةً للترويج أو التزييف.
بدأت ملامح مشروعه تتشكّل منذ ستينات القرن الماضي، حين شارك في تأسيس صحف معارضة للدكتاتورية والاستبداد، وأسّس بعدها مجلات فكرية، منها "مجلة النهج" التي حملت همّ التنوير والعدالة الاجتماعية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم ما واجهه من تضييق وملاحقة.
لكنّ التحول الأهم جاء مع تأسيس "دار المدى" في تسعينيات القرن الماضي، والتي لم تكن مجرّد دار نشر، بل مؤسسة ثقافية متكاملة، جمعت بين النشر والتوثيق والصحافة والعمل الميداني الثقافي. فأصدرت آلاف الكتب، ونشرت لعشرات الأسماء اللامعة، ورفعت شعار المعرفة للجميع والحرية والعقلانيّة.
ومن بين أبرز مبادراته الثقافيّة، إطلاقه سلسلة معارض الكتاب من دمشق وبيروت، إلى أربيل، ثم بغداد بعد التغيير، والتي لم تكن مجرّد فعاليات مهنيّة، بل تحوّلت إلى مهرجاناتٍ للمعنى، وبؤرٍ نابضة بالحوار والانفتاح. لقد مثّلت تلك المعارض فضاءً رحباً للإبداع، ومتنفّساً للفكر الحر، ومنصّةً التقت عندها أجيال الكتّاب والقرّاء، في زمنٍ كانت الثقافة فيه آخر خطوط الدفاع عن المعنى.
ومع عودته إلى العراق بعد 2003، أسّس صحيفة "المدى" اليوميّة، التي سرعان ما تحوّلت إلى واحدة من أبرز المنصات الصحافيّة الحرة في البلاد، ملتزمة بخط تحريري يحترم القارئ، ويقاوم خطاب الكراهية والطائفية، ويفتح المجال للرأي الآخر.
لم يكن فخري كريم يوماً محايداً بين الجلاد والضحية، بل كان دائماً في صف الشعوب، وفي قلب معاركها من أجل الكرامة والمعرفة. ولذلك، جاء هذا التكريم، ضمن الدورة الثالثة والعشرين لقمة الإعلام العربي، بمثابة اعتراف مستحق بمسيرة لم تهادن، ولم تنحرف عن بوصلتها.
ليس هذا التكريم تتويجاً لمسيرة حافلة بالإنجاز فحسب، بل حافزٌ للجيل الجديد كي يواصل درب الكلمة الحرة، والعمل الثقافي الجاد، والإعلام الذي يصنع فرقاً. ففي زمن يعلو فيه الضجيج، تبقى الحاجة لصوت رصين غير مهادن أكثر إلحاحا.
من "المدى" إلى معارض الكتاب، ومن المقال إلى الموقف، ترك فخري كريم أثراً لا يُمحى. والمهمة اليوم تتجاوز شخصه، لتغدو مسؤولية كل من يؤمن أن الثقافة التزام، وأن الصحافة فعلٌ تغييري لا مهنة عابرة.