كلما تظهر على السطح ملفات السيادة الوطنية العراقية للنقاش، من خور عبد الله جنوبا إلى آبار النفط على حدود إيران شرقا، يجد العراقي نفسه أمام مشهد يتكرر بتفاصيله الموجعة: تنازلات تمرر بصمت وصفقات وإتفاقيات ومعاهدات تبرم خلف الأبواب المغلقة وحقوق وطنية يفرط بها فئات منفذة وكأن العراق بلا شعب، وبلا تاريخ، وبلا ذاكرة.
وبالعودة إلى خور عبد الله: فإن تحول من بوابة إلى عبء سياسي؟، فهو ليس مجرد ممر مائي، بل رئة العراق البحرية، وشريان سيادي له أبعاده الاستراتيجية والاقتصادية. ومع ذلك، نجد كيف تمرر صفقات ومساومات تفقد العراق حق السيطرة الفعلية عليه. في المقابل، الموقف الكويتي واضحا: دفاع شرس لتحقيق السيطرة عليه، توظيف للغطاء القانوني، تعبئة للرأي العام والدولي. وهذا من حقهم. إنما السؤال الجوهري الأهم: لماذا لا نجد ذات الحماسة من الجانب العراقي؟ وأين الصوت الرسمي؟ أين الجهد القانوني؟ أين الضغط الشعبي؟ فهل بات العراق الحلقة الأضعف حتى في قضاياه المصيرية؟
ففيما الكويت في مسألة الخور واستباحة أرض العراق وثرواته جنوبا في ظل صمت داخلي وإقليمي أكثر إيلاما وإصراره في ظل تمحيص دقيق ومتابعة شعبية وبرلمانية صارمة على عدم التنازل عن مصالحه أو المساومة على حساب أمنه القومي. مهددا بكشف المرتشين العراقيين الذين قاموا بالتنازل عن حقوق العراق، أراضيه ومياهه البحرية، مقابل أموال طائلة... هناك في الشرق، على الحدود مع إيران آبار نفط تستنزف بلا محاسبة. تستخرج منها كميات ضخمة من النفط دون وجود اتفاقات واضحة تحفظ الحقوق العراقية. إيران، كأي دولة تبحث عن مصالحها، تحصن نفسها قانونيا واقتصاديا وعسكريا ولا تسمح لأحد بأن يمس سيادتها أو يقترب من حدودها دون رد واضح. أما العراق المرتبط بحدود شاسعة مع الجارتين، سهل المقايضة والمجاملات السياسية، والأخطر، غائب عن قرار الدفاع عن مصالحه وعن الرؤية الاستراتيجية وسيادته قابلة للابتزاز دن عقابا أو مساءلة...
السؤال المؤلم: لماذا لا يحرص الساسة العراقيون على وطنهم كما يحرص الكويتيون أو الإيرانيون على بلدانهم؟
فهل هي لحظة غياب الإرادة أم غياب الولاء؟، كلاهما، بسبب فقدان القوى السياسية في العراق بوصلتها الوطنية وتحكم أصحاب الولاءات العابرة للحدود بالقرار العراقي؟. فمن غير المعقول أن يدار العراق بمنطق الأهواء الشخصية والتسويات المزاجية، لا بمنطق القانون والمبادئ العامة للدولة. ومن غير المعقول أن تترك قضايا مهمة مثل خور عبدا لله والمساحات الحدودية من الأراضي والآبار والمياه الواسعة عرضة للابتزاز والاستغلال دون مسائلة أو عقاب. فيما حقوق العراق البحرية، والنفطية، والمائية، يترك مصيرها بيد شخصيات لا تؤمن أصلا بمفهوم الدولة العراقية وحدودها الجغرافية!.
وعلى قدر المسؤولية الوطنية، لا بد من أن نذكر، بأن العراق ليس تركة توزع ولا حقل لتجارب من دخلوا السياسة من أبوابها الخلفية. العراق في عرف القانون الدولي والمفهوم التاريخي، جيوديموغافيا، دولة ذات سيادة، وحقوقه غير قابلة للتنازل أو النسيان. وكل مسؤول، أيا كان موقعه، سيسأل التاريخ والشعب عما فرط فيه وكم قبض مقابل التنازل عن حقوق العراق الوطنية ومصالح مواطنيه...
الذي يقلق العراقيين، ليس، كيف يفرط بعض المسؤولين والساسة في العراق بمصالح بلدهم فحسب، أنما كيف يتصرفون وكأن العراق بلا شعب، وبلا ذاكرة، وبلا كرامة وطنية وتاريخ. مما جعل من السهل لهذا الوطن أن يستباح في وضح النهار من قبل القريب والبعيد، وبمساومة وأيد داخلية قبل أن تكون خارجية؟
في الجنوب، تمنح السيادة على خور عبد الله للكويت، ذلك الشريان البحري الحيوي الذي يمثل رئة العراق إلى البحر بموجب قرارات مجحفة ومذلة. يسلم دون رأي الشعب، ودون نقاش علني، ودون مراعاة لتضحيات أجيال قاتلت من أجل السيادة. وعلى مقربة من مدنه المتجاورة تهدر ثروات النفط العراقي من الآبار المشتركة، تستخرج وتنقل بلا إتفاق ولا رقيب وكأننا بلد لا يملك صوتا ولا سيادة.
وفي الشرق، تتكرر المأساة. تمنح الأراضي، وتهمش الحدود، وتترك آبار النفط الحدودية لإيران دون اتفاقات تحفظ حق العراق. ويسمح بتغيير معالم الأرض، وتحريك الحدود، وكأن دماء العراقيين التي سالت في الحروب لم تكن سوى أرقام. أي منطق هذا الذي يسمح بانحناء الدولة، وتراجعها، وتنازلها، في كل اتجاه دون مساءلة دستورية وقانونية؟
لا نعرف، لماذا هذا الصمت الرسمي؟ ولماذا تدار ملفات السيادة بصيغة الولاء الإقليمي وليس من منظور وطني؟ هل باتت الكراسي أثمن من تربة الوطن؟ هل مهمة العلاقات مع هذه الدولة أو تلك مبنية على أساس الإبتزاز والمساومات، على حساب حقوق العراق ومواطنيه، هي الأهم؟ إن التفريط بخور عبد الله، والتنازل عن الأراضي والآبار النفطية، سواء للكويت أو لإيران، لا يمكن تبريره بأي حساب سياسي أو دبلوماسي لأن السيادة الوطنية لا تقايض، والثروات لا تساوم، والوطن لا يباع.
في لحظة من لحظات التأمل المؤلم في واقع العراق السياسي، ينبغي، على أصحاب السلطة في العراق أن يدركوا بأن العراق ليس ملكا يتصرفون فيه كما يشاؤون، بل هو أمانة مؤقتة في أعناقهم، ليس إلا!. وسيأتي يوم تفتح فيه ملفات التفريط بالحقوق والمصالح الوطنية، وتسأل فيه الضمائر أن وجدت.
إن ما يحتاجه العراق اليوم هو إرادة سياسية وطنية، وإعلام مهني حر ونزيه، وقضاء مستقل، وشعب لا يقرع أبوابه الصمت. لأنه إن لم يدافع العراقي عن بلده، فلن يفعلها أحد بالنيابة عنه. فالوطن لا يدار بمنطق "إلا أبالية" أو المجاملات السياسية، ولا بالمساومات لمصلحة أطراف خارجية حتى وإن كانت عربية، إنما بمبدإ العقيدة والكرامة الوطنية والإرادة الشعبية...