ملاحظة اولى اقولها امام القرّاء الأعزاء هي انني جسدت كلمتي هذه ، بصعوبة بالغة، خلال فترة وجودي مصاباً بجائحة (كورونا) الحادة .
كتبت هذه السطور وانا في المستشفى او في (احد مصحات مدينة لاهاي الهولندية). ربما يجد القاريء ، هنا او هناك، تعبيراً خاطئاً او مثيراً للدهشة او الغرابة .
في هذه الفترة العسيرة من ايام (كورونا) ما نسيت جهد الأصدقاء الطيبين . كما ما نسيت جهد الديمومة الذي فتش عنه ، ذات يوم ، ثلاثة من أصدقائي المبدعين هم كل من الشاعر زهير الدجيلي و المغني سعدون جابر و ثالثهم الملحن كوكب حمزة .
من الممكن الإشارة ، على سبيل. المثال، الى ان كوكب حمزة ما اراد من تلحين أغنية واحدة من أغانيه بناء مدينة موسيقية واحدة، لكنه ، حتماً، اراد بناء جهد موسيقي ليكون متكاملاً مع الاخر ، مع الجهود الموسيقية الاخرى لاستكمال أسس ضرورية له.
نعم .. بإمكاني القول ان أسساً موسيقية صلبة ، بنيت في العراق، على يد احد المتعطشين للمعرفة الفنية - الموسيقية، التي كان يسعى لنيلها الشاب (كوكب حمزة) ، صاحب الرؤى الثقافية المتحركة من اجل ان يكون (مبشراً بالتجديد) من دون ان يقع تحت (علم المصادفات اللاهوتية) و غيرها من المشاعيات المماثلة ، بصوتها و صداها، اللذين غطيا ، سريعاً، بالضجة العظمى تلك (البشارة) بالإصلاح الموسيقي في الغرب العالمي.
لقد أعطى الملحن الشاب (كوكب حمزة) نزعاته الانسانية بكل ما يملكه من فنون الموسيقى و ما توفر عنده من قدرات يوتوبية وما اندهش له العالم كله حيث ان اغلب الأنظمة السياسية القادمة وراء سقوط نظام الزعيم عبد الكريم قاسم ،( قامت و ما زالت تقوم على شراء حمار عراقي بعشرة فلوس ) ، ليشغل مناصب الوزير و المدير، و غيرهما من علامات العار . وأريد التذكير انها أخذت من وقتي الشيء الكثير من الساعات و الأيام حيث انقلب علي الكومبيوتر سالباً مني الجهد و الوقت المضاعف لسبب لا ادريه و لا يدريه أياد من خبراء مرموقين في اشغال الكومبيوتر و معاندته و مشاكسته . حتى صار يوم الكتابة لصفحة واحدة يتفوق على عشرة ايام بدل الساعة الواحدة او اليوم الواحد في احلك الظروف. المهم تحملت الصعاب كافة .
اعود الان الى صلب القضية لأسال السؤال التالي :
هل تضمنت أغنية (الطيور الطائرة) تعبيراً واضحاً ، واعياً، في المصادقة الفنية الهادئة ، المباشرة او غير المباشرة ، القادرة على ان تجعل موسيقارها بطلاً نموذجياً ، في موسيقى الشباب او ان يكون شكل موسيقاه من اشكال المجسات النمطية في الفن الموسيقي - الغنائي المندمج ط ، اندماجاً ، طبيعياً ، في ثلاثية الشعر و الموسيقى و الأداء الغنائي..؟
هل صعد فتى ً صغير العمر الى القمة اسمه (كوكب حمزة) منتصراً لحركة ، اصلاحية ، موسيقية ، ضرورية . فيها أمل الخلاص من التخلف الغنائي العراقي، الذي جعل الكلمة العراقية (ساكتة) ان لم تكن (خرساء) او ان لا حراك لها رغم وجود صخب و ضجيج منها و حولها . ...؟
اعتقد جازماً ان الكاتب التقدمي وان المغني المبدع و الموسيقار الخلاق ، جميع هؤلاء لا يملكون أية وسيلة للخلاص بالهرب من اي قيادي بعثي لا يستوعب مستلزمات زمانه ، طالما هو يعتلي منصباً حكومياً مرموقاً، حين جاءت اليه فرصته الوحيدة التي تهيأت له و لم يتهيأ لها، مثلما لم يكن الكاتب الفرنسي (بلزاك) احد رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر قد تهيأ لثورة ١٨٤٨ التي حملت (الربيع الاوربي) على وزن (الربيع العربي ٢٠١١) كانت شبيهتها قد جرت في وسط و غرب أوربا في الفترة فبراير ١٨٤٨ حتى جنوري ١٨٤٩ ومثلما خشي الروائي الفرنسي (فلوبير) المصاب بمرض عصبي يزيده خوفاً ، كل يوم ، معتبراً حاله واقفاً بوضع مأساوي من الخوف ، واقفاً امام أسطورة سيزيف.
ترى هل وجد كل واحد من ثلاثي أغنية الطيور الطايرة نفسه انه يخوض مغامرة كبرى مع البعثيين وبالذات مع ما يسمى البعثيين الهالكين ، بمعنى بعثيين من موتى تقاليد سخيفة و من محبي المغامرات الكبرى ، من الذين لا يحبون الا ذاتهم العنيدة، ام ان العمل المدجج بالدراسة و التقصي سيكون مقبولاً لدى الكثير من البعثيين، طالما كانوا بتلك الفترة يفتشون عن قوتهم بقوة الآخرين . السؤال الأكبر هو : هل أعاد ت ثلاثية زهير الدجيلي ، كوكب حمزة، سعدون جابر ، سجية التغريد الحقيقي الى بساتين الاغنية العراقية. هل ابتكر الملحن كوكب حمزة بداية سلالة المغرمين بحضارة وادي الرافدين .
هل ركب الملحن الكوكبي مركب الحضارات المتفاعلة ، الذي كان دهره قد غاب لجيل كامل، حيث اغلب الملحنين العراقيين في حالة غياب ام انهم في حالة صخب في بعض الأغاني لا علاقة له بالتناقض الاجتماعي العراقي او ربما وقوعه في حالة اللاوعي ، مما جعل ظهور أغنية الطيور الطايرة معنى من معاني القيامة الغنائية او معنى من معاني انتصارها الكوكبي. او لعل شمس الفن الغنائي الحقيقي قد أشرق و انفجر على يد كوكب حمزة بالعود الذي يمسك و يدندن أفكار أغانيه و هو ما زال في مرحلة الفتوة المتجهة نحو جعله (مفكراً موسيقياً) . هل حملت أغنية الطيور الطايرة طاقة غنائية خلاقة - فكرية لعلها طاقة طلوع شمس بداية سبعينات القرن العشرين جعلت ملحن تلك الاغنية يفتش عن حب جديد بان موعده بين شباب الوطن و اُسلوب الطيور الطايرة بات وشيكاً في الصعود الاكيد الى الشمس و ممارسة الموسيقى الفذة على مستواها. هل تأثر هذا الثلاثي بالعالم الاسلامي الى جانب وجود العصر الفوضوي ..؟ لقد اصبح وجود (الجامع) وجوداً معقداً في العصر الفوضوي ومثلما وقعت الإقطاعية بيد الاسلامية ، او وقعت الاسلامية بيد الإقطاعية في عصر ماض مما جعلها ملوثة أخلاقياً, ملوثة قياداتها، ملوثة ثقافتها مما جعلها تفتقر الى اي أمل بالإصلاح الجذري . هكذا فان ( العالم الاسلامي) لن يكون واقعياً لانه اصبح اسماً فارغاً من المعنى.
هل كان العود وسيلة الصعود ..؟
هل كان هناك لغز الحداثة النوعية في عملية الصعود الكلي. ام هناك ممارسة ثقافية معينة ادت الى فهم سريع لدى أفراد الجيل الموسيقي الجديد .
هل يمكن ان تكون (إجابتي) على (أسئلتي) مادة الصعود ..؟
هذه أسئلة و غيرها واجهتني في اول يوم دخولي الى مديرية الاذاعة و التلفزيون في بغداد ، تحت ضغط الصديق (زهير الدجيلي) ورغبته في رؤية ما يحدث في ستوديو (الطيور الطايرة) ساعة تسجيل أغنية بذات الاسم و العنوان عن الطيور الوطنية ، الكثيرة ، التائهة في المدن العراقية و اريافها بعد ان همد الاٍرهاب وقتياً و نسبياً .
كان زهير يمتلك بعض إمكانيات صديقه (المدير العام) المسمى (محمد سعيد الصحاف) حيث يستطيع دعوتي لمشاهدة تسجيل أية فعالية ثقافية من دون اعتراض اي اداري انتهازي في هذه المؤسسة ، لانه كان ينظر الى زهير الدجيلي كأنه مكلف من الصحاف بالتدخل من اجل رؤية العناصر المبعثرة و اكتشاف الكفاءات ذات الهوية الحقيقية الناشئة عن هذا التفكير و قد تجمعت لدى زهير مقارنات منهجية بين بعض الكوادر الفنية في اثناء دراسة بعض اوضاعهم . جلست مع زهير الدجيلي في غرفة عليا بالطابق الاول مطلة على الاستديو لمشاهدة التسجيل كاملاً. بالفعل شاهدت التسجيل وحركة المخرج و الملحن من أولها حتى اخرها .
كان محمد سعيد الصحاف ما زال فتى صغيراً ، منكسراً ، يوماً ما من ايام البؤس السياسي ، كان موقوفاً معي ، في الموقف العام ببغداد ، بقي ، خلالها، بضعة ايام تحت رعاية البوليس من الناحية الاجتماعية بما يضمن له ، الاكل و الشرب ، لكنه العادي الذي لا يمكن تحمله جميعاً و هو يتناوله جميعه ، بما تحتاج اليه فترة التوقيف المشترك . فجاة ، بعد ايام قليلة ، اعلن مسؤول في شرطة التوقيف عن انتقال الموقوف القادم من مدينة الحلة ،(محمد سعيد الصحاف) ، عام ١٩٦٠ ء الى موقف آخر .. و هو لم يكن يملك فلساً واحداً ، مما اضطرني لتزويده ببضعة دراهم مما يملك صندوق الموقوفين ، كان مبلغ الاعانة الشيوعية للفتى البعثي محمد سعيد الصحاف مبلغاً و قدره ٦٠٠ فلساً. لعبت هذه الافلاس القليلة تأثيرها على الشخصية القيادية في الإذاعة و التلفزيون لاحقاً ليكون ، مديرها، مرناً معي حين اصدر امر تعييني محرراً اصيلاً في (مجلة الاذاعة و التلفزيون). مجلة صغيرة ليس فيها أصول تذكر ، قبل ان يرأس تحريرها صديقي زهير ًالدجيلي، الذي كان الوحيد قد اخبره الصحاف نفسه عن دراهم عام ١٩٦٠. ربما اعتبر الدجيلي مثلي قضية الدراهم سراً من الأسرار ، ان شيوعياً اسمه جاسم المطير يساعد بعثياً ، من الناحية المالية ، موقوفاً اسمه محمد سعيد الصحاف.
على أية حال لم يكن صعود الملحن ، الحامل آلة العود تواً. بعلاقة ما مع التوقيف و عناصره . كان (كوكب حمزة) فتى كفئاً و قديراً جداً في فن التلحين ، كان صعوده بقدراته الخاصة ، بعمق تلحينه.
لا ادعي انني وصلت الى معرفة اعماق هذا الشاب النشيط المدعو (كوكب حمزة) فهل ان جهوده التلوينية لقصيدة الشاعر الصعب ، المسمى ب-(المعقد) زهير الدجيلي على لسان بعض الملحنين المعقدين. لم يكن منهم الملحن كوكب حمزة لان هذا الفنان من نوع خاص يرغم نفسه انه ما زال في اول الطريق وعليه ان يتشوّف المعرفة بكل خطوة وعليه ان يطمح دوما الى مزيد من من معاني ابجدية التلحين و الموسيقى . من دون مثل هذا الشعور لا يدرك اعماق نفسه الفنية كما لا يدرك تجزئة وحدة عمله وربما يمزق خارطة الوحدة في مصيره .
ابى كوكب حمزة ان لا يكون له حضور مكشوف و فعل مسموع و مرئي و مشهود لان التلحين الموسيقي هو عمل من اعمال الهة الموسيقى الكفء لخدمة الخليقة .. كان كوكب حمزة واحداً من الآلهة الموسيقيين لم تبزغ شمسه ، بعد. يريد هذا الاله الكوكب في أوائل شبابه ان يظهر قوياً جداً و ان يكون حامل تجربة متجددة من تجارب اكتمال الموسيقى العراقية . لا يتم هذا الظهور و هذا الاكتمال الا بصراع لا بد ان يكون كوكب حمزة احد أطرافه. لا بد ان تكون القصيدة متجاوبة مع الانسان العراقي و العربي ، لا بد ان تكون الاغنية الكوكبية دعوة للتعارف بين الشبان و لابد ان تكون دعوة للتفاهم بين الرجال الشجعان ، لابد ان تكون دعوة للتضامن بين من لا يبالي و لا يتردد نهجه في والحكاية. يصر هذا النوع من الموسيقاريين ان يكون تعامله مع أدواته ليس شيئاً مبهماً او غيبياً.. انه جزء من سيرة تحويل الكلمة الى ظاهرة سمعية تئتلف مع الجمال بوحدة نظام .
يصر كوكب حمزة ان يخلق من خلال موسيقاه و منها موسيقى الطيور الطايرة تواصلاً انسانياً بين السامع و المسموع كما يريد ان يكون ممكنات لديه ان يكون الاخر جوهراً ابجديات مشتركاً بموضع ليس متعلقا و بمبادرات شهرة . يساير فيها غرائز ة اهواء الطيور الجريئة كما يحدد قضيتها الاولى ان تدخل تاريخ الانسان المتطلع اليها في طيرانها وفي صراعاتها . اراد كوكب حمزة من موسيقاه ان يكون وجوداً حقيقياً مع الاخر مكيفاً التاريخ .. ربما استرضاء بعض أجياله يشهد بانه يظل يتنفس الحرية وبلوغ شاوها الاعلى بقوة موسيقاه و فعل سلسلتها التاريخية . . و .
حين كنت انظر الى حركة اليدين يحركهما كوكب حمزة في الهواء او باشارة طبيعية يأخذها الملحن لزمن طويل او قصير حسب نوع العمل. كان الكوكب يعتقد جازما ان وجوده في هذا الستديو هو وجود تاريخي ، وجود تقدمي، وجود حي، قدر الممكن ، لان التاريخ - بنظر الملحن، هو تفجير المعنى ، تفجير ألطاقات كلها. كنت ارى وجوده في الستديو ليس وجوداًسجيناً و لا منفياً فقد كان وجوده حراً اراده لا يزول الى الأبد . لانه الكوكب من نوع خاص من نوع يصر على رفض كل ما لا يتوائم معه محاولا ان لا يجد نفسه متناقضاً مع اي شي من الأشياء الموسيقية او التلوينية.
كان كوكب حمزة يظن انه واحد من أعضاء جيل جديد ، لابد ان يصنع تذكاراً مهماً في تلحين (أغنية) الطيور الطايرة بصورة ليس فيها صخب ، انما فيها وعي عال وعريض في طوله . لعل هذا الطول يجعله دافئا جداً بحرارة الموعد بينه و بين شمس الدنيا، كلها، من خلال طيران الطيور الطايرة على وفق العهد الفني بينهما. اعجبتني الاغنية لانها أتت علي و على مسامع صاحبي زهير الدجيلي باعتبارها أغنية حقيقية كلامها نهج حي ، وموسيقاه (ذات ممدودة) الى المستقبل. لن يرفضها مدير او وزير.
و قد كان هذا هو الفعل المرتقب فقد قال المسؤولون ، بعد لأي، موافقتهم بإصدار شهادة حياة عالية لأغنية الطيور الطايرة. بعضهم قال ان الموافقة على هذه الاغنية صدرت بصعوبة لاقناع او اقتناع عدد غير قليل من مسؤولين حكوميين و حزبيين ، بعد مشاهدتها، ربما لا تخلو من مجموعة خطايا أولها ان كلامها ليس بعثيا و ان الموسيقار ليس بعثياً ، فقط، انما هو فتى شيوعياً. اما كاتبها فهم قد انحدر من آدم نقرة السلمان. لكن الطوفان العراقي في ذلك الزمان كان قد شرب هذا الجمع البعثي الذي لا ينكر الا وجهه . وانه لا يتذكر طيب النكهة في كلام معظمة متزلزل ما برح من اول الاغنية حتى اخرها.. ينادي الناس بكل زاوية من زوايا ارض العراق وانه يعايش المدن و الارياف العراقية وانه يوفي العمل الفني حقه موزعاً على جميع الفنانين المشاركين ٢، دمتوجها الى اجزاء الشعب العراقي ، جزءاً جزءاً. حسبه كوكب حمزة فقد اراد عملا فنياً- جماهيرياً يزيده وجوداً بالمجتمع. وقد حصل.
اما زهير الدجيلي فقد كان قد فاز كشاعر ، لانه استطاع ان يتفاعل معه الملحن كوكب حمزة حين لبى بموسيقاه جميع الأحداث الداخلية و الخارجية في ظواهر القصيدة و رؤياها وبعض المستقبل في الخلق و الحرية حيث صار الماضي بلا اعتزال و الحاضر بلا انقطاع . يبدأ قلم زهير الدجيلي بالقول:
يا طيور الطايرة مري بهلي .. يا شمسنا الدايرة ضوي لهلي .
بداية رائعة عن الأهل و الشمس و المرور بالأهل و السلام عليهم و نشر الضوء بينهم .
هذا هو البيت الشعري الاول .
ثم ياتي البيت الثاني ليقول :
يا شمسنا الدايرة ضوي لهلي ، سلميلي و غني بحجاياتنا .. سلميلي و غني بحجاياتنا آه لو شوقي جزا و تاه اوي نجمة
آه لو صيف العمر ما ينطوي نسمة
و الهوى أدواغ الحبايب
في هذا البيت الشعري يؤكد زهير الدجيلي على تعظيم أهله و ضرورة السلام عليهم و و التفاخر بأنواع الحبايب ، كما يتفاخر
بأسواقهم و بحبهم و بالنسيم الذي يغفو فوق ضفائر شعرهن .
يدعو الطيور ان ترى حال أهله و أفراحهم.
يتمنى لهم ان يزداد انتشار السلم و المحبة بينهم .
في واقع الامر تصبح (الطيور الطايرة) و (المغردة) في سماء الناصرية و بغداد بمحلاتها المتنوعة ، املا ً ان تتحقق طاقة تثير اعجاب الناس في هذه الدنيا بأهل الناصرية و اهل بغداد و بالأهل في كل مكان من هذه الدنيا.
هذا هو حكم الدنيا في العيش الصعب لجماهير الاكثرية على غرار العيش الصعب و الأقلية على غرار العيش السهل و المريح . .
ربما تكون الأقلية محمية بحراب السلطة الحاكمة وربما الاكثرية تواجهها السلطة الحكومية الثيوقراطية بواسطة العصا او النار او بالتجاوزات الأكثر خطورة ، كما فعل الدكتاتور صدام حسين خلال تعديات هذه السلطة الزمنية بكل اشكالها بفترة أمدها ٣٥ عاماً ثم تلتها ١٨ سنة جديدة غابت عنها الحقوق عن ملامسة جبهات الناس. كان كل من الشاعر و الموسيقي و مؤدي الاغنية يثقون بالثلاثي الفني ولا يثقون بسلطة الدولة و نفوذ حكامها سواء كانوا متدينين او لم يكونوا ، لكن أغلبية الناس يعرفون ان الحكام يقفون قبالة ملايين الناس موقفا مسروراً احمق ، دائماً و أبداً للبرهان على تفوق البابوية الثيوقراطية ومصدرها الأساسي قداسة السيطرة الثيوقراطية وسموها المتفوق على الآلهة للترميز على خزي الأمور الدنيوية و على التوضيح بقداسة النظرية اللاهوتية الكاملة التي هدفها ابقاء ( القمم) بايدي القاصرين الممسكين سلاحاً. هكذا صعد هذا الثلاثي الى القمة فوراً.
الصعود الى القمم ليس سهلاً ، ثق . لكنه وحده يمكنه ان يملأ ، بالسعادة التامة ، قلب الانسان ، كل انسان ، حتى لو كان هذا الانسان هو الفرنساوي (البير كامي) الصديق الصدوق للفيلسوف الوجودي جان بول سارتر ، خلال فترة من حياته او ان يكون عالم السيكولوجيا العراقية الدكتور قاسم حسين صالح المهتم بمتابعة الفنون والفنانين في العراق . كان بامكان الفنان ( كوكب حمزة) ان يكون صديقاً لأي موسيقار عالمي او عربي لينطلق في السماوات الفنية ، حيث يجد كل موهوب موسيقي بوزن الموسيقي العراقي (كوكب حمزة) إقامة علاقة صداقة نزيهة ، ليس فقط مع هذا او ذك من الموسيقيين ، بل بامكانه إقامة العلاقة مع جميع الديمقراطيين و الكتاب و الشعراء المتساوين في الأهداف الاخلاقية المشتركة والمساواة الحسابية و في ما يتعلق بالحياة المدنية، كما رآها (أرسطو) بينما كان الفرنسيون الثلاثة (سارتر و كامي و سيمون دي بفوار) يَرَوْن أرسطو من زاوية مختلفة . كان الفرنسيون الثلاثة مهتمون بالمسرح و المشاكل المسرحية ، لانهم اجتازوا مرحلة التأليف و النقد المسرحي . لكن الثلاثة العراقيين (زهير و كوكب و سعدون) قد وجدوا أنفسهم شبانا جدد في طريق الاغنية الشعبية ، الجماهيرية . كانوا قد دخلوا مغامرة كبرى و كل واحد منهم يحلم ان يكون معروفاً مثل مكسيم غوركي ، او مشهوراً مثل (بافل) بطل روايته المعروفة (الام) . لم أكن ادري ان المغني المبتدىء (سعدون جابر) يمكن ان يكون كلي القدرة على الغناء ، اكثر و اكثر ، اعلى و اعلى ، وانه يمكن ان يكون من الجماعة الغنائية الساذترية الاولى. لكنهم أعلنوا انهم من الصوت الماركسي الغنائي الاول.
كثيراً ما سألت نفسي : هل صعد شاعر أغنية الطيور الطائرة و ملحنها و مغنيها الى القمة.. اعتماداً على نفسه وإمكانياته .. هل يصعد كوكب حمزة بسامعيه الى كوكب سماوي ليفيدوا في سماع ما يحدث على سطح هذا الكوكب ..!
قد يتمكن هذا الامر ان يجرنا الى جدل اخر ، جدل ذي طابع فلسفي و ربما يجرنا الى هفواته. هل يكون الجدل الواعي ان يكشف لنا حقيقة ان المبادرة الثلاثية الاولى كانت نجاحاً غنائياً من الدرجة الاولى لان صوت سعدون جابر قد جرى تنقيته بادوات الموسيقى التي يعزف بها كوكب حمزة وصولاً الى العدالة الموسيقية الكاملة . لكن هل تسمح العدالة في مؤسسة الاذاعة و التلفزيون ، نهل العدالة ام انها مهتمة ان يكون امرها بالمقام الاول و ان يكون نوعها بالمقام الاعلى و ان يكون توزيعها بالصدر الأوفر ، اذ تتوزع المهمات العامة على الجميع ، ليكون كل واحد منهم حراً في ولادته و نضاله و في دفاعه عن مبادئه و عن حقوق الممواطنين جميعاً.
سهل القول ان يحقق ملحنها نجاحه الكبير لكي يكون جزءا من الحضارة الهيلينية ، آلتي صهرت المساهمة الغنائية مع الأوليات الشرقية في بلاد الرافدين ..؟
هل استطاع شاعرها القادم اليها من ظلام و ظلم نقرة السلمان ان يتصل بالحقيقة ..؟
هل كان تلحينها خيراً من خيرات الفن الجميل بصوت الشاب (سعدون جابر) المتقدم الى الستديو بأمر من المدير العام. ..؟
هل كان أداؤها نموذجاً فنياً متمرساً ..؟
اقول لكم ان الاسئلة كثيرة و معقدة ، طالما أججت الصراع بين (السياسة) و (الاخلاق) و جعلت الحوار قائماً قائماً ، حتى اليوم ، في بداية الأعوام السبعينية من القرن العشرين . لم يؤثر على المتغيرات الفنية و ثوابتها عند صديقين، كوكبي و مظفري، ليس بينهما وعظ ، لكنهما مرتاحين الى الحكمة اليونانية اليومية .
بينهما علاقة صداقة - اخوية كبرى ،
فيها سعادة مشتركة ،
و شقاء مشترك .
،حظ مشترك و سوء حظ مشترك ،
فيها عبودية و فيها حرية . .
انها صداقة ،
فيها نموذج من صداقة كارل ماركس وفريدريك انجلز . انها مثل صداقة لينين و مكسيم غوركي . ربما مثل صداقة جون بول سارتر و البير كامي و غيرهما من اصحاب اخرين تَرَكُوا بصمات فذة على لوازم فكرية لا غنى لها عن شئون إنسانية.. ربما لا اذهب بعيدا لذلك ابسط المسالة لاقول ان صداقة الشاعر زهير مع الملحن كوكب مثل صداقة سجينين من سجناء نقرة السلمان. . لكن يستطيع تفكيري ان يحزر انها من نوع صداقة خاص أتيح فيها لصديق زهيرالدجيلي ان يمارس صلاحيات خاصة،جعلته عنصراً قوياً في مجابهة البعثيين و هم يريدون السيطرة على الاذاعة و التلفزيون ، كلها، ليس على مجلتها فحسب، البعثيون يريدون السيطرة النظامية و غير النظامية ، خاصة وان مدير عام الاذاعة و التلفزيون محمد سعيد الصحاف ، كان منهم . يستند على جميع أنظمة العمل الموثوقة فيها.
لا املك تفاصيل علاقة صداقة وجدتها قوية و مفعمة بين رجلين لهما علاقة بين الفضيلة الكاملة و نوع من التعاليم الاخلاقية الكاملة . الاول شاعر ، جاء الى الشعر من المظاهرات و السجون .. اسمه زهير الدجيلي . الثاني فتى ، كثير الفطنة الموسيقية و الذكاء الصوتي، يحمل بين أصابعه عوداً متوازناً مع جدل فلسفي منصب على فوران سياسي خاص . في صوته مزاج خاص و مران خاص وانبثاق خاص .
استعان كل واحد منهما بقضايا الجدل الكلاسيكي حيث كان الاثنان لا يعرفان عن بعضهما غير مكان السياسة و صراعاتها . ، غير انهما ليسا مختلفين في الأهداف الاجتماعية ، كما لا يعرفان شيئاً عن القدرة الصوتية داخل غرف المعرفة الفنية - الموسيقية في صوت و تعابير الكلمات الانسانية ، المتضامنة . انهما من نوع قادر على تعديل النوعية الصوتية و انهما من محبي صناعة الكلمة المناسبة، التي يملك باطنها الشاعر زهير الدجيلي القادم من (نقرة السلمان) بعد إطلاق سراحه و اختياره العيش ، العمل و السكن، في العاصمة بغداد. اما الاخر (كوكب حمزة) القادم من مدينة البصرة حاملاً أسس الاصالة الفنية و إبداعها . . يبدو عليه انه لا يحمل آلة العود وحدها ، بل يحمل القدرة على كشف ظاهرها و إمكانية تنصيب الفنانين ، كل في مكانه المحمود .
ان حامل العود و الكمنجة قادر ، بهذا و ذاك ، ان يحرر السلطات الموسيقية من خلال تجاوب (كوكب حمزة) مع احلام المجتمع الزماني العراقي ، الذي يعيد للدولة ضرورتها الطبيعية و كرامتها المقتولة و فعالياتها المنهوبة ، مرتين، الاولى يوم ٨ شباط الأسود عام ١٩٦٣ و الثانية يوم ٩ نيسان عام ٢٠٠٣ . في الحالين يكون عمل الدولة و المجتمع ، من خلال التجاوب و الاستجابة مع أنغام العود ، الكمان، الجيتار، و غيرها.
و مع طاعة التنصيب المكاني ..من خلال المبارزة و التفوق .
صار على المجتمع العراقي مضاعفة جهوده ، كلها، لإعادة الركائز ، كلها، الى الدولة العراقية و ان يعاد لها خصوصيتها الاتحادية ، الكونفدرالية ، باعتبارها الركيزة المتينة لتلك الخصوصية ) المتطلعة لتحقيق السيادة و الاستقلال و ليس إبقاءها على مفهوم (السيطرة) و (القهر).
المفروض الاول ، هنا، هو خلق دولة متحررة من الفكر السياسي التبعي، متخلصة من الشكل الأكويني ، من أفكار ما يسمى ب-(القديس) توما الأكويني، اكبر فقهاء الكنيسة في الدول الغربية .
كان الموسيقار كوكب حمزة يحمل مرايا الفقراء و الديمقراطية و اشكالهما كالمختلطة . كان يحمل جميع قواعد الفن الانساني، الذي يستهدف خير الانسان...
كان كل من الشاعر و الموسيقار مهيئان لإدانة انحطاط الطبقة العراقية الحاكمة و انحطاط صرحها الثقافي - الفني الخاص . كان كل واحد منهما حاضراً مع تقاسيم. (إلياذة الفقراء العراقيين) بكل مكان . و قد بدا كل واحد منهما انه على استعداد لإعلان غاياته الغنائية و وسائله الموسيقية ، بين المعنيين ، كافة . ليس بين الاثنين أية منافسة . لم يصدم احدهما الاخر .. بل كان كل واحد منهما صرحاً مذهباً شائعاً امام الاخر ليكون مظهراً من مظاهر الحياة المدنية .
كان نمط تفكير السياق العملي في تلحين الاغنية قد قام لتكبير أسطورة الاشتغال المعماري الغنائي على يدي الموهوب فطرياً ، كوكب حمزة . المتضامن بشكل وثيق مع منظومة الأفكار العامة المسيطرة في عصر قصيدة الطيور الطائرة .
نعم اقول ان أغنية (الطيور الطائرة) لها (عصر) و فيها (سيطرة).
كل شيء واضح في حركة الخبرة الفنية الطيبة داخل الجسم الفني لهذه الاغنية، التي رايت جميع مراحل تسجيلها بأحد ستوديوهات بغداد . كان كوكب حمزة بتلك الساعات منشغلاً كانشغال المعماري بأحجاره و كرئيس المهندسين بمسيرته و فرجاله. كان عود كوكب حمزة يعيد نفسه لبناء مدينة ينتظر فيها( أفلاطون) لقاءً مع (أرسطو) من اجل اعادة صياغة النموذج الفلسفي لمدينة بغداد بصوت موسيقي خططه الفتى الحلاوي كوكب حمزة . لكنه ، بعد تجربته، في أغنية (الطيور الطائرة) ادرك ان خاتم دولة شارلمان قد انطبق على إصبعه تماماً. البعثيون يريدون من كل واحد ان يكون في خدمة (الله) و دولتهم و في خدمة القوة القومية الناصرية . انه أساس ذو طابع الهي ، يتميز بانه طبيعي و سحري في ان واحد و ليس ذَا طابع انساني او قانوني . البعثيون يريدون صنع كل شيء ذَا مظهر (تقدمي) من صنع غيرهم . ان ( الموظف) ليس عليه غير اداء الواجب الرسمي،،و (الطاعة) من دون أية همسة نقدية.
بنظري ان كل عمل من الاعمال الفنية خاضع الى التحليل الحريص بغية إظهار جوانب قوته او ضعفه.
لقد كانت أغنية (الطيور الطائرة) نموذج (النقد) و (التحليل) خاصة من مؤلفي العمل (زهير الدجيلي و كوكب حمزة) حيث توفر لدى الاثنين عنصراً من عناصر الخلق الفني الغريزي ، الذي لا يمكن تصور لعبته الفنية الجميلة . كان الصانعون ، الفنانون، الثلاثة يَرَوْن في أغنية (الطيور الطائرة) عملية ابداعية غريزية حادة كأنها مقتبسة من الاسطورة الرافدينية. كانما كان زهير الدجيلي قد فكك أسطورة هلنستية و كان كوكب حمزة قد تمكن من تسلق حصان طروادة او ان سعدون جابر قد تخطى بصوته ، شفهياً، صوت دالمخلوقات الخرافية في الميثولوجيا الأثينية . او ان الثلاثة توفرت لهم فرصة اكتشافات اثرية جديدة فيها تفاصيل أسطورية ، بغدادية او بابلية او سومرية ، جديدة.
كنت قد شهدت ولادة اغلب الكلمات ، في هذه القصيدة - الاغنية. بشكل شائع امام مسمعي مثلما امام (ام علي) زوجة الشاعر ، كانت تعابير زهير الدجيلي تصعد و تنزل من فمه امام أسماعنا ، انا و اطفاله وزوجته، مقرونة بإيثار خاص مع بعض الممارسات الاولية التي تمس الإذن الموسيقية - الحقيقية . كان الشاعر يتوجه بما منحته خلقته من قدرة موسيقية لفهم نفسه و فهم السلطة الفنية المطلقة، التي حملتها اخلاقيات (كوكب حمزة) و فنونه من اجل ان تكون لهذه الاغنية سلطة كلامية ، ذات صيغة واضحة على أساس تغليب القصيدة الشعرية المندمجة مع أقوال معينة ، كي تعطي ، معنى السياسة . أعطت الاغنية معانٍ فنية صاغها بأدب قائم على أصول الفن و الكلام فتى الفتيان (كوكب حمزة) اول من تمكن ان يختم اخطار النزعة الدكتاتورية الفردية القادمة .
ذات يوم من الأيام السبعينية الاولى اخبرني فيه الشاعر انه اكمل قصيدة الطيور الطايرة، لكنه سرعان ما اخبرني ، ايضاً ، بوفاة أخيه ، الذي يصغره عمراً . ذهبنا معاً بسيارتي مع عدد قليل من أفراد العائلة لدفنه في قبر من قبور النجف . كان زهير راضياً بختام القصيدة ختاماً مسروراً و مقبولاً رغم انه كان حزيناً جداً. انتقل (الحزن) برحيل أخيه الى (الحب) بكلمات سكنت على صليب القلب داخل بدنه . لم ينطق بصوت ولا حراك ولا صخب ولا ضجيج . لكن الحزن المحمول على ظهر قصيدة او على أبيات شعرية فيها حطام او في نتائجها تغريدة ترابية تحت تفاعل التراب مع احزان مرت على الطبيعة المجردة . يا لكلام التغريبة الالكترونية يا لتأثيرها على من يصنعها بقصد تحرير الارض و العقل الانساني . يظل الكلام الانساني خاصة المصحوب بالموسيقى ، خاصة الموسيقى الكوكبية او الموسيقى الحمزوية ، حيث موسيقى كوكب حمزة (تقرب الأقاصي) و (توحد الممزق) و (تنطق الروح) . هذا هو الحاصل الفاصل في ما احدثه الملحن كوكب حمزة في قصيدة اشعار كتبها الشاعر الشعبي زهير الدجيلي . فيها جميع أوليات معاني السلام و المسرة تسود ليس بين المنشدين و حسب ، بل ان المجد و المسرة والسلام و المحبة تصبح رشاشاً مصحوباً من الأفواه الى القلوب حيث يصبح ظلام الليل نهاراً و تصبح الاخلاق العدوانية ضميراً أبيضا. ويصبح المنفى وطناً و يصبح السلاح المخفي شدة من الورد.
هكذا يلبث المجرى يجري بناحية الانسان،
يطّلع الانسان على نفسه،
تتوقف المكابرة السايكولوجية ،
تنفتح جميع الأبواب المغلقة ،
يتعذر على كل السيئات ان تعبر الى قلوب الناس. حسب اعتقاد الصحفي المخضرم (مفيد الجزائري) الذي يعتقد ان التعاون بين المقتدرين على تقديم أحسن التدابير الإنجازية حيث يبعد التعالي ، كما لا يسمح بالجمود العقائدي . كذلك يسمح التعاون التقدمي من دون أية علة من علل الإرهاق. هذا ما كانت جريدة طريق الشعب ، لسان حال الحزب الشيوعي، تريده و تصبو اليه لتشارك فيه على مستوى الوطن العراقي ، كله . حيث يناضل الناس الوطنيون ، الشعبيون ، الحقيقيون من اجل خلاص الدولة من بقائها (مؤسسة الهية). ان الانسان المواطن لن يكون سعيداً اذا ظلت وظيفة الدولة ، وظيفة قمعية. لا بد ان تظل مهمة الدولة ، الاولى، هي بسط العدالة في المجتمع . ان الديمقراطية هي العدالة و الطغيان هو الظلم .
هذا هو الفعل الذي توصل اليه كوكب حمزة . لقد أدى الملحن كوكب حمزة حال وقفته السريعة امام الطيور الطايرة معنى من معاني التاريخ الفني العراقي ، واضعاً سؤالاً كبيراً امام جميع المعنيين : أيها الفنانون العراقيون : هذا هو الطريق ..!
بمعنى ان الطريق لا يخلو من أزمة او من أزمات حارة او باردة ، شديدة او ضعيفة ، مما يعني استمرار حاجة الفنان ، اي فنان، الى عدم الوثوق بالايمانية الفردية ، الشخصية . هكذا عاصر الموسيقار كوكب حمزة التطلع التذكاري لدى مكميليه الجوهريين ، سعدون و زهير ، اللذين وجدا موقعيهما قريباً من موقع. كوكب حمزة ، كما وجد كوكب حمزة ان صوت موسيقاه قريب جداً من اشعار الشاعر زهير الدجيلي كما هو بذات الوقت قريب من اداء مخلوق فني جديد هو : سعدون جابر . بمعنى ان مصير تلحين الطيور الطايرة ليس فيه تصارعاً سلبياً ، ليس فيه أية تجزئة للوحدة الثلاثية ، لا يمكن لوجود الاغنية النهائي ان يحدث انشقاقاً انسانياً او انه يمنع قيام الوحدة الثلاثية حول قصيدة واحدة. كان التفاعل الثلاثي قد خلق مقاومة حقيقية أوجدت جذوراً تصحيحية في جوهر الموسيقى العراقية حيث غدا كوكب حمزة منذ ذلك اليوم ملاكاً من ملائكة الخلق التجديدي لعدد غير قليل من الأغاني الاولية - الانسانية . صارت ألحان الطيور الطايرة تجديداً موسيقياً فيها نوتات جعلت سباق التطور الموسيقي العراقي على حجر منحوت من احجار البداية الموسيقية تماما بالصورة التي نحت بها الفنان جواد سليم النصب التاريخي في ساحة التحرير المسمى (نصب الحرية) او مثلما ينحت الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهرية كلمات قصائده من (ذهب ) و (فضة).
اصبح ناشد الطيور الطايرة صاحب منطق دائم لا يتملق احدا ولا موضوعاً ولا غريزة ولا يساير مطلباً غامضاً ، بل انه يريد ان يسمو بموضوعات الشعر و الموسيقى ، معاً، الى ان تكون قيماً جديدة تحت يد و عقل الأجيال الفاطنة لها او التي تريد ان تجعل الناس المساهمين اصحاب مبادرات من الشهامة الجريئة لصنع اجيال جديدة ننتظرها .كانت اولى شهادات كوكب حمزة و شهامته ، علامات مشاركته الأدبية - الفنية في انه قام بتسجيل غنائه الكامل لهذه القصيدة ليكون قادراً ان يدخل الى الوحدة الثلاثية مرتين.
صارت هذه قضية حياة الأجيال القادمة لكي تتشارك ، مباشرة، في صنع التاريخ الغنائي . التاريخ الذي لا يعفي كوكب حمزة من أصالة و أصول المشاركة في صنعه ، بمعنى ان كوكب حمزة قد كيف تاريخ الموسيقى العراقية ، جاعلاً إياه وجميع احكامه قد تحققت فعلاً ، لذلك كانت و ما زالت أغنية الطيور الطايرة تواصل المدى العميق من دون استخدام القوة ، بل كانت هذه الاغنية و ما زالت سليلة التاريخ لانها تحمل بطيبات تلحينها حقيقة تقدميتها العالية ، علو السماء، و في موسيقاها الجامعة بين التراث و التجديد و طموح معرفة معانيها المتجددة . لقد أوجد كوكب حمزة عملاً اساسياً حين جعل الحرية الموسيقية عقيدة معرفية .
ليس من الصعب القول ان كوكب حمزة تمكن الاعتماد على أصول ما كتبه صاحبه الشاعر زهير الدجيلي بما ترافق بين القصيدة و الممارسة الموسيقية الناجمة عن قدرة خفية لدى الموسيقار كوكب حمزة في استيعاب تعبيرات شاعرية تضمنت حنكة معينة من قبل زهير الدجيلي بأعلى اشكال العمل الاخلاقي حين استقبل موسيقياً متناسباً جداً مع حركات و غايات الشعر الدجيلي . ناقش الموسيقار كوكب حمزة مقاومة الحلول الفردية لقضايا عمومية. بمعنى ان الحقيقة تبقى واضحة عند الشاعر و الموسيقي . استطاع كوكب حمزة ان يستدل عن كل ما قدمته قصيدة الشاعر الدجيلي. ربما استطاع ان يفهم المقصود من كل كلمة شعرية من دون ان يغرق نفسه بفهم المعاني ، خاصة و ان الحزن قد ران على الشاعر زهير الذي وجدت في كل تعبير من تعابيره قد استوطن عليه حزن مؤكد على رحيل احد اخوانه.
لقد فعل كوكب حمزة بعلومه الموسيقية مثل ما فعل هيراقليديس بإخضاع علوم الظواهر ، و هي نهر لا بداية له و لا نهاية ، الى نوع من القانون او العقل الكلي المزود بديمومة و المسمى (اللوجس) بشموله لمجموع الكون ، اي للطبيعة و الروح بحيث يشكل (القاعدة) و (القياس) و (الحد) للتغيير ذاته و للخلاف ذاته.
كما ان الموسيقار كوكب حمزة يدرك ، بثقافته، ان العالم مكون على نسق واحد بالنسبة لجميع الناس . كما ان هذا العالم كله لم يخلقه من قبل اي اله و لم يخلقه اي انسان. لكن نارا حية بشكل خالد ظلت و تظل مشتعلة بمقدار معين و في ظروف معينة ، ظلت و تظل منطفئة بمقدار معين في ظروف معينة اخرى ، وجدت وتوجد وستوجد دائماً.
ان هذا يُبين ان الشاب الموسيقي المدعو كوكب حمزة ، العاطل عن أية وظيفة موسيقية و عمل موسيقي دائم و مرتب هو انسان من أناس الكثرة المؤمنة بالتحرك و بالتغير و النسبي . كوكب حمزة رجل يحب الانعتاق من (القياس) و (الحد) و (الانسجام) و (التوفيق بين الأضداد) بواسطة الاعتدال . و هو بهذا يبتعد بموسيقاه عن رؤى الهيراقليدسيين ويقترب عن حب او كره من البيثاغوريين و بصفة عامة اكثر فانه يقترب اكثر من تطبيقات الفكر اليوناني و هو يخوض صراعات مثمرة من اجل ذلك. و قد كانت نتائج تلحين قصيدة الطيور الطايرة حين فصل طابعها العمومي كنشيد منتصر بالحرية التامة للمدنية التامة .
لقد خصص كوكب حمزة الموسيقى ، هنا، للجمع بين المدنية و التربية الاخلاقية و التربية العلمية. لقد تركت الموسيقى نفسها ، المبادرة الفردية ، كاملة، امام تفصيلات كوكبية او حمزاوية وفيرة و متقنة بشكل خاص . جاعلاً حق المدنية حقاً مطلقاً لجميع الناس حين نجح في جعل موسيقى الطيور الطايرة لجميع الناس ، ايضاً، و بهذا تخالف مع أرسطو حين وضع موسيقاه في تربية الجميع بينما وضع أرسطو فلسفته لذوي التكيف و الإرادة والنظام البرنامجي الموحد ، المحدد.
وضع كوكب حمزة نبرته على موسيقاه ليكون قادراً على تكييفها و بلوغ الشعور الاخلاقي اكثر من بلوغ المعرفة ذاتها و الذوق ذاته.
بهذه الصورة نجح كوكب حمزة ان يكون للموسيقى ميدانها و ان تمتد على نطاق الكون الاجتماعي العراقي ، كله.
حقق هذا الموسيقار نقطة العدالة و الديمقراطية في دولة قسرية متسلطة على الشعب بالحديد و النار ، حقّق لجميع من يستمع الى أغنية الطيور الطايرة ، نظاماً تناسبياً فيها، بسماع متساو بشكل متساو و ما هو غير متساو بشكل غير متساو في الموسيقى غير المضادة للطبيعة السمعية لدى معظم الناس المستمعين العراقيين الذين تلقوا ما يستحقونه من مفردات الكلام و من مساهمات الموسيقى المُضافة حسب علم الاخلاق الشعبي ، ينطلق تحويل العلاج لأي تجربة في علاج الاستجابات النفسية بمختلف تفرعاتها . هذا ما حققته موسيقى كوكب حمزة لإيقاف رائحة بارود التفجيرات الإرهابية و بارود الهجمات المضادة ، المتضمنة استجابات جماهيرية ، فسيولوجية تعزز السلوك الدفاعي الداخلي عند الناس من مختلف الإعمار .
ثلاثة اشياء حققها كوكب حمزة في الطيور الطائرة . اولاً : انه حقق القفزة الموسيقية الى اعلى مؤدياً فرضية التأقلم التلقائي مع الصعود الدائمي الاوتوماتيكي- التلقائي على اليات الشعر الشعبي المشروط .
ثانياً حقق الارتياب المنعكس في صدور من يسمع صوته من اعداء الحرية .من الذين يضطربون عندمايواجهون الصدمة .
و ثالثاً صار صوت قيثارة كوكب حمزة اعلى من صوت إطلاق النيران من مدافع الميليشيا .
من هذا التحول الأساسي، الشامل ، صارت (أغنية الطيور) ضماناً فسيولوجياً في الانسان البغدادي . كما صار صوت آلة الموسيقار كوكب حمزة استجابة جماهيرية عظيمة لدى ثلاثة إعمار إيجابية داخل المجتمع . العمر الاول هو المتكيف معها لخاصيته الشديدة في الروح الثورية .. العمر الثاني يتمثل في مجتمع ينتظر نوعاً من العلاج . العمر الثالث هو هو الذي ما زالت علاقته تتحول من تجربة الهلع و الاستسلام الى تجربة انتظار الإنقاذ.
بصرة لاهاي في ٢٠ ابريل ٢٠٢١