"تباطأت الحلوة في خطواتها كي تتخلف بعض الشيء عن زوجها عمداً، لتفرش عباءتها على مصراعيها كأنها فراشة ربيعية، ولترفع يدها إلى جبينها، وتمنح نزار تحية بيد مرتجفة”
جعلت أم علي من "الحِفافةِ" مهنة لها، حيث تؤدي واجبها في البيوت المستورة التي لا تحب نسائها الذهاب إلى صالونات الحلاقة النسائية. أخذت أم علي، على عاتقها العمل للمساعدة على تربية أطفالها الثلاث، والأعتناء بزوجها الذي اصبحت همومه وأخفاقاته مسيرة حياته. أم علي "كثيرة الصنايع وبختها ضايع"، لان زوجها الذي يعمل في سوق بيع الخضار بالجملة، يعمل يومًا ويجلس في البيت عشرة أيام. مشكلته الإدمان على المشروب، الذي يُذكره، بالآمال الكبيرة التي ضاعت، لتحل محلها انكسارات لم يستطع التغلب عليها، ليغرق في متاهات لماذا وماذا لو.
[[article_title_text]]
كانت أم علي، تزور جارتها أم نزار بمناسبة وغير مناسبة، تحكي لها همومها وعما يدور في الحارة من قصص غرامية ومشاكل زوجية، ومن تخاصم مع من، ومن الذي مع الزعيم (عبد الكريم قاسم) ومن هو ضد الزعيم "ومنو الراح ومنو الأجه". أما نزار فكان يُحضر لامتحانات البكالوريا للصف الثالث المتوسط، للعام الدراسي 1961/1962، وافضل مكان يجلس فيه هو الطارمة (الشرفة) المجاورة لغرفة الجلوس، والمُطلة على الحديقة الأمامية. لذلك كان نزار يستمع بشكل غير مباشر ودون قصد، لحديث أم علي مع والدته. وكان ينبهر من فطنة أم علي السياسية، حينما يسمعها تعلق على ما يقوله المذيع في اخبار التلفزيون. وكان يرى في تعليقاتها حِساً وذكاءاً وحنكة سياسية لا تتناسب مع ثقافتها أو مهنتها. واحيانا يقول في نفسه، يبدو أن أم علي تنتمي لحزبٍ او حركة سياسية! وفي احد الأيام سألت أم نزار، أم علي قائلةً: "أكول انتِ شلون عايشه ويه هذا رجرلچ السكير؟" "لا يا أم نزار على بختچ"، أجابتها أم علي، "موحقه هيچي يصير، چان فورمن بالسكك يُكرك وفصلوه، لانه نقابي ويدافع عن حقوق العمال". "معقوله شلون يقبل الزعيم"، أجابتها أم نزار. "ليش الزعيم يدري شديصير بالولايه، الله مبدالچ، ديفصلون المخلصين ويصعدون الخونة وهو نايم، الله اليستر".
تحدثت أم علي خلال إحدى هذه الجلسات عن "ليلى الحلوة"، وهكذا كانت تَسميها لأنها فعلا فتاة جميلة، ورشيقة وذات شعر ذهبي مكعكل طويل وعيون عسلية واسعة مثل عيون الغزلان. بيت ليلى يقابل بيت نزار من الجهة الاخرى من الشارع، بيت كبير يتكون من طابقين، وفي الطابق الثاني بالكونة (شرفة) مزينة بسندانات ورود متنوعة بألوانها وأشكالها. وكانت هذه البالكونة مُطلة على الشارع وتشرف على الشرفة التي يدرس فيها نزار. تُطل ليلى من بالكونتها المشرفة على الطارمة التي يدرس فيها نزار مرة أو مرتين في الأقل يومياً. ونزار شاب وقور وخجول، لذا كان يُبعد نظره عنها خجلاً حينما يلاحظ وجودها، كي لا تنحرج منه، ولأنه يعلم أنها نافذتها الوحيدة للعالم الخارجي، ولتبقى واقفة هناك تُمتع نظرها في تحركات البشر والسيارات وما يدور في الشارع من رواح ومجيء.
ولكن في احد الأيام حدث ما لم يكن متوقعاً. أطلت ليلى وكان وجه نزار باتجاه سندانات شرفتها وكأنه يحاول ان يشتم رحيق الورد عن بعد، وقبل ان يدير رأسه عنها كعادته، منحته ليلى ابتسامة خجولة ودعوة إيحائية بما معناه، ألّا تدر بوجهك عني، لأنني هنا كي أراك وكي تراني. إرتبك نزار من الموقف غير المتوقع، خفقان في القلب واهتزاز في القدمين وشعور بمن لا يصدق ما يحدث. انسحبت ليلى إلى مخدعها بسرعة فائقة. بقيّ نزار يفكر بما حدث؟ هل كان ذلك حقيقة أم خيال؟ سؤال ظل دون إجابة لحين الأطلالة الثانية التي كان نزار يترقبها بفارغ الصبر. وإذا بها ليلى بلحمها وشحمها وشعرها الطويل المتناثر في الهواء، وبلمعان عذب في عيونها لم يسبق له ان رآه من قبل. ولم تمضي سوى لحظات حتى رفعت يدها اليمنى لتهزها عدة مرات كي تُسلم من بعيد ولكي تذهله من جديد. ولم يعرف نزار كيف يجيب، سوى رفع اليد بالإجابة دون ابتسامة لإنه كان مرتبك، لا بل مرتبك جداً، ولا يدري هل انها تسخر منه؟ هل تغازله؟ هل تصادقه؟ أم انها تسلم على ابن الجيران لا اكثر ولا اقل؟ كل ألاحتمالات ممكنة، لكنه كان راضياً بأيٍ منها.
استمرت التحيات والابتسامات عبر الأثير، وكانت حافزاً يومياً كي يهيأ نزار نفسه كل يوم ليشرب شاي الصباح ويتناول الغذاء في طارمة الخير والسعادة، طارمة الحب والغرام، الطارمة الموعودة التي تطل منها المدلولة. كانت اغاني عبد الحليم حافظ هي الشائعة في ذلك الزمان خاصة أغاني فلم "حكاية حب" مع مريم فخر الدين الذي عُرض في صالات السينما مؤخراً. كان معظم شباب ستينات القرن الماضي معجبين بأغاني عبد الحليم، لذلك كان معظمهم يحملون راديو ترانزستور صغير، مثلما يلازمهم الهاتف المحمول هذه الأيام، كي يستمعوا إلى الأغاني العاطفية. يتضمن فيلم حكاية حب، قصة حب صعبة المنال بين فتى فقير وفتاة من عائلة باشوات، ويحتوي على اجمل ما غنى عبد الحليم مثل اغنية "بتلوموني ليه" واغنية "حبك نار" واغنية "بحلم بيك". وإذا صادف حينما تطل المدلولة من شرفتها أن يكون عبد الحليم مُغرداً، يرفع نزار صوت المذياع كي تستمع اليه ليلى وتطرب معه ولو من بعيد، وربما كان ذلك الوسيلة الوحيدة للحديث بينهما. وحينما تراه يرفع الصوت تنفرج أسارير وجهها بابتسامة ناعمة وخجوله مع وضوح بالاستمتاع بها وكأن نزار يناجيها.
وفي يوم من الأيام سمع نزار صوت عبد الحليم يأتي من بعيد في اغنيته الدرامية "حُبك نار"، من الجانب الآخر من الشارع. بدأ الصوت يقترب اكثر والمصدر اضحى اكثر وضوحًا، وإذا به من راديو ترانزستور صغير محمول بيد ليلى، وهي خارجة به من غرفتها الى البالكونه وصوت الراديو بدأ يرتفع كي يسمعه العاشق الولهان في الطرف الآخر من منزلها. قرر نزار ان يجيبها بالبحث عن نفس الأغنية. لم تكن المحطات كثيرة في ذلك الوقت، لذلك عثر عليها بسرعة فائقة، ثم رفع يده التي تحمل الراديو للإجابة على التحية التي أشعلت النار في قلبيهما. وبذلك أصبحت هذه عادة مستمرة بينهما. وكان المارة من الجيران يسمعون نفس الأغنية من على جانبي الشارع، وربما شك البعض من ان مصادفة سماع نفس الاغاني اضحت كثيرة التكرار!
ومرت الأيام الجميلة بسرعة فائقة، وانتهت امتحانات البكالوريا، وكان من عادة نزار العمل مع والده الذي يملك مكتبة لبيع الكتب في شارع السعدون في العطلة الصيفية. نزار يحب العمل في مكتبة والده لأنه شغوف بقراءة الكتب السياسية والقصص الواقعية. كان يقرأ كثيراً قصص نجيب محفوظ وكتابات سلامة موسى. إلا انه لاحظ من اليوم الأول أن بعض الرفوف فارغة من الكتب. سأل والده عن السبب، وكان الجواب إن وزارة الإرشاد والأمن السياسي أبلغونا بعدم نشر وبيع الكتب الهدامة (اليسارية التوجه)، لذلك سحبناها من الرفوف وحاليا أخفيناها في غرفة الخزن الخلفية، نبيعها للزبائن الذين نعرفهم فقط. اسرع نزار إلى المخزن واختار بعض الكتب كي يأخذها معه إلى البيت.
مضت عدة أسابيع على هذا المنوال، وفي مساء احد أيام الخميس، سمع الجميع هلاهل (زغاريد) تأتي من جهة بيت الحلوة. وكانت هناك سيارتان او ثلاث واقفة أمام دارهم. لم تدم الشكوك لمعرفة ما جرى سوى يوم واحد، حيث جاءت أم علي إلى دار أم نزار كعادتها بعد ظهر يوم الجمعة كي تزف البشرى، وبدأت كلامها بتساؤل عما إذا سمع الجميع من ان ليلى قد تمت خطبتها من احد أقاربها البارحة. سألتها أم نزار ما إذا كان هذا الخطيب حبيب؟ أجابتها أم علي كلا، ولكني اعتقد انها تحب شخصاً آخر، لأنها كانت سعيدة جداً هذه الأيام وتستمع للأغاني العاطفية كثيراً، وغمزت لنزار بعينها لتُعلمه من انها على معرفة بقصتهم. سألت أم نزار، أم علي: إذا كانت ليلى تحب شخصاً آخر، فلماذا قبلت الزواج من قريبها؟ أجابتها أم علي بحنكة فائقة، من ان حُب الشباب، مشاعر جميلة إلا إنها لا تُكوْن بيت، فالحب شيء والزواج شيء آخر. حينها تملك نزار شعور غريب يصعب فهمه ويتعسر تفسيره، لأنه شعور مُشوش ومتناقض وغير واضح وغير متكامل. وأخذت الأفكار تسبح في مخيلته: طبعاً إذا تقدم لها عريس سوف تتزوج، ولكن ماذا عن "حبك نار"! إنها نارٌ سوف يطفئها الزواج يا صاحبي، لأنها لم تكن ناراً، وإنما شعلة ضياء آتية من قنديلٍ رومانسي يبهر حياتنا بمشاعر نبيلة يخفق لها القلب دون أن يأسره.
تغير الموقف كلياً. لم يعد الثنائي يستمع للاغاني معاً، لم يعد هناك من لزوم للتقصد بالتواجد في محطات التلاقي. ولكن حينما تلتقي عيناهما من بعيد مصادفة، لم يعلوا أي منهما جهداً لتجنبها، لا بل يتم تبادل التحيات ولو بشكل آخر، تحية جار لجار، كلها ود واحترام. كان ذِهاب نزار للعمل مع والده يساعده كثيراً على تفادي اللقاءات المؤلمة. وبدأ يسهر مع الأصدقاء في المساء كي لا يرجع إلى البيت إلا والظلام قد اسكن المحلة في بيوتها. وقبل نهاية ذلك الصيف وفي مساء يوم آخر من أيام الخميس، جاءت الزفة لتأخذ العروس إلى عش الزوجية الجديد، لتتحول ليلى من طفلة بريئة إلى امرأة ناضجة، ولتصبح ربة بيت، ولتنجب بنات وبنين، وربما تتذكر بين الحين والحين، عند سماع أغنية ذات رنين، فيها خصوصية ذات معنى وحنين، مشاعر حب عذري سيظل مطوياً عبر السنين.
وفي يوم خريفي من احد أيام الجمع الذي عادة يزور فيها الأبناء أهلهم، كان نزار في باب الدار يراقب الرياح العاتية والسماء المكفهرة وتبعثر أوراق أشجار النارنج والبرتقال الصفراء، مترقباً لاحتمالات هطول مطر في ذلك اليوم الهائج، لمح قدوم إمرأة ميز طلتها من بعيد ومعها رجل لم يره من قبل، حدس انه غريمه وزوجها، قاصدين بيت اهلها الذي يقابل بيتهم. حار نزار في امره، وارتبك في موقفه، وأخذ يسأل نفسه ما المفروض أن يفعله؟ هل يدخل البيت ويتجنب رؤيتهما؟ لم يستطع فعل ذلك ولن يقوى عليه لأنه يريد رؤيتها ولو لآخر مرة. فظل واقفاً متبسمراً في مكانه، وجسمه يرتعش بكامله. كانت خطواتهم بطيئة جداً، احس إنها لاحظته، ووجهت رأسها باتجاهه، وحينما اقتربوا من بيت نزار تباطأت الحلوة في خطواتها كي تتخلف بعض الشيء عن زوجها عمداً، لتفرش عباءتها على مصراعيها كأنها فراشة ربيعية، ولترفع يدها إلى جبينها، وتمنح نزار تحية بيد مرتجفة، وبنظرات حائرة، وبابتسامة مرتبكة، لا معنى لها سوى إنها ما زالت تتذكر تلك اللحظات العذبة، وانها سعيدة جداً بهذا اللقاء الخاطف، الذي كان في نفس الوقت لقاء ووداع.
محمد حسين النجفي
www.mhalnajafi.org