منذ سنوات لم أشاهد فيلماً بهذه الفيوض الروحية والابداع المتوهج والعنفوان وغرابة الاخراج وجموح التصوير وخشونة الموسيقى ،كل مافي الفلم مفاجئ ومحتدم بالمشاعر المهتاجة، وفيه عرض غريب للطبيعة واقعي وغامض وغير مسبوق ، تنتظم الفلمَ حواراتٌ عن الفن وجدواه للبشر في مشاهد متقنة عن الانهيار الانساني وغموض الفن، إنه فيلم (عند بوابة الخلود At Eternity›s Gate ) عن حياة الرسام فان كوخ .
كثيرة هي الأفلام الروائية التي انتجت عن العبقري فان كوخ من بينها (شهوة الحياة Lust To Life 1956) الذي أخرجه فنسنت منيللي ومثله كيرك دوغلاس وهو عمل درامي مفرط بغنائيته ، وفيلم (فينسنت 1987) للمخرج بول كوكس الذي ركز فيه على أعمال فان كوخ ، في حين اعتمد فيلم ( فنسنت وثيو 1990) للمخرج روبرت ألتمان على رسائل فنسنت الى شقيقه ثيو وهي الرسائل التي كشفت عذاباته خلال حياته القصيرة ( توفي في السابعة والثلاثين من عمره)، وقد التزمت تلك الافلام بالتقاليد السينمائية السائدة .
ينفرد فيلم ( عند بوابة الخلود 2019) الشبيه بقصيدة فجائعية للمخرج والرسام الامريكي جوليان شنيبل بتقديم مقاربة مختلفة لحياة فان كوخ ؛ فهو لم يتوقف ليسرد الوقائع بل عمد إلى الغوص في عقل فان كوخ وأغوار نفسه ليقدمه في سبيكة مبهرة تجمع بين ثلاثة أقطاب صنعت حياة فان كوخ : الفن والدين والفلسفة، وعبر هذه المقاربة كشف لنا علاقة فان كوخ بالضوء والجوهر الخفي للأشياء وتوقه لجعل الناس يرون حقيقة الوجود التي يجهلونها .
اختار جوليان شنيبل مقطعاً عرضياً يغطي العامين الأخيرين العاصفين اللذين هيمن عليهما الجنون وهوس الانجاز ؛ فصنع فيلمه بلوحات متراكبة مشرقة وأليمة كشفت عالم فان كوخ الجواني المضطرب . انصرف فان كوخ في هذين العامين للرسم بوتيرة مجنونة وهو يعاني من جرح عدم الاعتراف بفنه الذي تخطى الأساليب المألوفة ، وضاعفت آلامَهُ نوباتُ الهلع والهلوسة التي قادته الى مستشفى المجانين .
لم يهتم لأمر فنسنت غير شقيقه ثيو وصديقه الرسام بول غوغان الذي نصحه بالسفر الى بلدة آرل في جنوب فرنسا حيث ضوء الشمس الساطع الذي يبحث عنه ، وهناك تفجرت موهبته . يقيم غوغان معه في النزل فتلوح لفنسنت بارقة أمان وطمانينة بوجوده ؛ لكنه يغادره ليلتحق بمجتمع الفن الباريسي بعد أن أصبح فناناً مرموقاً ؛ فيصدم فنسنت ويتضرّع اليه ليبقى لكنه لايأبه بتوسلاته . ينهار فنسنت أمام هذه القسوة مما يدفعه لقطع أذنه وتكليف إحدى النادلات بإرسال الاذن الدامية الى غوغان ملفوفة بورقة كتبَ عليها ( تذّكرني ) .
يتكرر في الفيلم مشهد هروب فان كوخ إلى الفضاءات المفتوحة فنراه يركض في حقل عباد شمس ميت متيبس ويتساءل محدقاً بمديات الطبيعة والسماء القاسية عن سبب اختلافه الموجع عن البشر . ترى أيكون إختلافه تكريساً لابتكار الجمال ؟
يظهر فان كوخ في هذا الفلم كائناً يتعذب لادراكه بأنه لم يخلق لهذا العالم ، وقد أبدع المخرج بعمق معرفته الفنية في اظهار سحر الاحاسيس المتناقضة باللقطات القريبة المترنحة المتسارعة والكوادر المائلة المعبرة عن العبقرية المنفلتة والجنون الوشيك . براعة الممثل «ويليم دافو» واستبطانه لشخصية فان كوخ المعقدة ساندت المقاربة الفلسفية للمخرج فقدم تصوره للشخصية انطلاقاً من خبرته الطويلة ؛ فهو ممثل تخصص بتجسيد شخصيات إشكالية عديدة من بينها شخصية الشاعر ت. إس . إليوت و المخرج بازوليني وشخصية السيد المسيح في فيلم ( الاغواء الأخير للمسيح ) .
يعمد المخرج في مشهد مصنوع بحرفية عالية إلى إظهار شغف فان كوخ بشكسبير الذي يعده كاتباً عظيماً لأنه كاتب غامض يكتب عن كل شيء : عن الرجال والنساء والملوك والالهة والحب والكراهية ، كما يُظهِرُ افكار فان كوخ النبوئية في حوار الفنان مع الكاهن فهو يعتقد بأن الله جعله رساماً لبشر لم يوجدوا بعد ، ومهمته الآن أن يوقظ النيام من سباتهم عبر فنه ليشاهدوا ماينقله لهم من رؤى عن الطبيعة والجمال يدركها بعقله ولايراها الآخرون السادرون في جهلهم .