استعادت مجلة "نيويوركر" الأمريكية قصة انخيدوانا، المرأة التي عاشت في العراق القديم، وتوصف في الوسط الأدبي العالمي بانها الشاعرة والاديبة الأولى في التاريخ.
ووصف تقرير المجلة الأمريكية الذي ترجمته وكالة شفق نيوز، انخيدوانا، وهي ابنة الملك سرجون الاكدي، وأصبحت كاهنة منذ أكثر من 4 آلاف سنة، بأنها ساهمت في تغيير قصة الأدب.
وأشار إلى أن أحد النحاتين قام بحفر صورة امرأة تترأس أحد الطقوس على قرص من الحجر الجيري الأبيض قبل 4300 سنة، وكانت المرأة ترتدي عباءة طويلة وغطاء على رأسها، وكان هناك اثنان من الحاضرين يقفان خلفها، وآخر امامها يقدم القربان على المذبح.
أما على الجهة الخلفية من القرص الجيري، فهناك نقش يعرف عن السيدة بأنها انخيدوانا، الكاهنة الكبيرة، ابنة الملك سرجون الاكدي، ويعتبرها الباحثون بالاضافة الى كونها كاهنة، أول مؤلفة موثقة في العالم.
"أنا انخيدوانا"
وعلى لوح من الطين هناك كلمات محفوظة لقصيدة طويلة تقول فيها: "لقد توليت أخذ مكانتي في مسكن الحرم. كنت الكاهنة الكبرى. انا انخيدوانا".
واوضح التقرير انه في الحضارة السومرية القديمة في جنوب بلاد ما بين النهرين حيث ظهرت الكتابة الاولى، النصوص كانت مجهولة الكاتب، وإذا كانت هذه القصيدة التي تتضمن عبارة "أنا انخيدوانا" هي من كتبها فعلا، فان ذلك يرمز فعليا الى بداية التأليف والبلاغة، وحتى بداية كتابات السيرة الذاتية.
وتابع التقرير ان انخيدوانا عاشت قبل الشاعر الإغريقي هوميروس الذي كتب "الالياذة" بنحو 1500 عام، قبل 1700 سنة من الشاعرة الإغريقية سافو، قبل 2000 عام من الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي يوصف بانه والد الكتابة البلاغية.
أول إمبراطورية في التاريخ
واشار التقرير الى ان والد انخيدوانا، الملك سرجون الاكدي عمل على توحيد دويلات المدن في بلاد ما بين النهرين، من اجل ان يقوم بتأسيس ما يوصف احيانا بانها الإمبراطورية الأولى في التاريخ.
وتابع أن مجال نفوذ الملك سرجون امتد من الخليج الى البحر الابيض المتوسط، وشمل ما يسمى حاليا العراق والكويت والاردن وسوريا، بما في ذلك أكثر من 65 مدينة، لكل منها تقاليدها الدينية وأنظمتها الإدارية المختلفة وهويتها المحلية.
ولفت إلى أنه برغم أن الملك سرجون كان يمارس حكمه من مدينة أكد الواقعة في الشمال، إلا أنه قام بتعيين ابنته انخيدوانا كاهنة عليا، في معبد إله القمر في مدينة اور الجنوبية، مضيفا أن المنصب كان دينيا في الشكل الظاهر، الا انه فعليا، كان سياسيا، استهدف من وراءه توحيد الاطراف الرخوة والواسعة من امبراطوريته.
انقلاب عسكري
واضاف التقرير انه بعد وفاة الملك سرجون، فإن المملكة تمزقت بسبب التمرد، وقد تولى الحكم اخوة انخيدوانا لفترة قصيرة، ثم حكم ابن أخيها.
واشار الى ان القصيدة تكشف عن ان الجنرال العسكري لوغالان، مشتبه بالاغتصاب، هو الذي ربما قاد انتفاضة مسلحة في مدينة أور وطرد انخيدوانا من مقرها في المعبد في المدينة.
وتقول انخيدوانا في القصيدة مشيرة إلى الجنرال لوغالان، أنه "حول هذا المعبد الى بيت سيئ السمعة. شق طريقه وكأنه متساو. وتجرأ على ان يقترب مني بشهوته".
وذكر التقرير أن انخيدوانا راحت تتجول تائهة في البرية بعدما جرى اخراجها من أور، وكتبت تقول "جعلني امشي في أرض الاشواك. سلب مني الاكليل النبيل لمكتبي المقدس. اعطاني خنجرا وقال لي: هذا ملائم لك تماما"، في اشارة الى انه يشجعها على الانتحار، فيما التعابير المستخدمة في القصيدة تشير إلى احتمال وقوع انتهاك جسدي بحقها.
وبعدما أشار التقرير الى ان خلاص انخيدوانا اعتمد على مهاراتها البلاغية، رأى أن قواها قد تلاشت، وهي كتبت في قصيدة "أصبح فمي الذي كان معسولا يوما ما، زبدا، وتحولت قوتي التي ترضي القلوب، الى تراب".
قمع التمرد
ومن أجل تخطي هذا العائق، راحت انخيدوانا بداية تبتهل لاله القمر لكنه تجاهلها، وقالت عن ذلك أن "ضوء القمر الخاص بي لا يبالي بي. يتركني اهلك في هذا المكان من الآمال المخدوعة".
ولهذا، فانها تتجه بدعائها إلى الى "انانا"، الهة الحب والجنس والحرب، وتقول في قصيدة تحمل عنوان "تمجيد انانا"، "سيدتي.. هذه البلاد سوف تنحني مجددا أمام صرخة معركتك".
وأشار التقرير إلى ان ابن شقيق انخيدوانا، تمكن من إخماد التمرد، وعادت انخيدوانا الى مقرها، وهي في قصيدتها تنسب الفضل في انقاذها وخلاص أور، الى "انانا"، اذ تقول "ليكن معلوما انك تدمرين الأرض المتمردة".
وبالاضافة الى نص قصيدة "التمجيد"، هناك نصان اخران منسوبان الى انخيدوانا، هما "ترنيمة لانانا" و"انانا وايبيه"، وهناك ما يعتقد انها 42 قصيدة دينية وترانيم موجهة الى معابد دول مدن مختلفة، وهي كلها تمثل ما يسميه الباحثان في جامعة يال ويليام هالو وجي.جي ايه فان ديك، "الجزء الرئيسي من لاهوت بلاد ما بين النهرين" الذي كان يوحد العديد من الطوائف والآلهة في المنطقة.
وذكر التقرير انه تم الاحتفاء باعمال انخيدوانا في بلاد ما بين النهرين القديمة، وكانت أيضا جزءا من المناهج الدراسية في "الادوبا" وهي كانت بمثابة مدارس الكتاب التي دربت الكهنة المستقبليين وموظفي الخدمة المدنية على الكتابة المسمارية وقواعد اللغة السومرية، مضيفا أنه خلال مئات السنين، كان الطلاب يتعلمون من خلال حفر ونقش كلمات انخيدوانا على ألواح من الطين، وهناك نحو 100 من هذه النسخ اللوحية من "تمجيد انانا"، ما زالت موجودة.
"هي التي كتبتها"
وبرغم ذلك، أوضح التقرير أنه منذ اكتشاف هذه الألواح في منتصف القرن العشرين، فقد تجادل الباحثون عما إذا كانت انخيدوانا هي صاحبة هذه المؤلفات، وعما إذا كانت كاهنة في ذلك الزمن هي التي كتبت هذه الأعمال، وهل ان فكرة وجود امرأة في بداية تقليد الكتابة، قبل ألفي عام من العصر الذهبي لليونان، هي فكرة جميلة بدرجة يصعب تصديقها؟.
واشار التقرير الى ان معرضا في "مكتبة ومتحف مورغان" في نيويورك تحت عنوان "هي التي كتبت: انخيدوانا ونساء بلاد ما بين النهرين"، ان يمنح هذه الكاهنة السومرية حقها.
ونقل التقرير عن مديرة المعرض سيدني بابكوك قولها "عندما تسأل اي شخص تعرفه، سيقول لك ان المؤلف الأول هو الاغريقي هيرودوت، او أي رجل آخر، لقد كان هذا يثير دهشتي دائما. لن يأتي على اسمها (انخيدوانا) احد ابدا".
ولفت التقرير إلى أن التنقيب في مدينة اور جرى للمرة الاولى في خمسينيات القرن التاسع عشر، إلا أن الكثير من المدينة لم يكتشف حتى العام 1922 عندما تولى عالم الآثار البريطاني ليونارد وولي قيادة مهمة استكشافية بتمويل من المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا، مجذوبا الى تاريخ أور باعتبار أنها كانت موطن النبي ابراهيم وملوك الوثنيين القدامى في الكتاب المقدس.
وكان أبرز اكتشاف لوولي هو المقبرة الملكية حيث عثر فريقه على مقابر الملوك والملكات الى جانب مجوهرات واسلحة وفخار والات موسيقية وكنوز اخرى. لكن في العام 1927، اي بعد خمس سنوات من بدء الحفر، اكتشف فريق التنقيب أنقاض معبد، وبداخله قطع مشوهة لقرص حجري يصور انخيدوانا واشياء اخرى تحمل اسم الكاهنة واختام تخص خدمها والواح من الطين مغطاة بالخط المسماري، وكانت بعض الألواح الموجودة في اور عبارة عن نسخ من نصوص انخيدوانا.
الا ان المستكشف البريطاني لم يقدر اهمية الاكتشاف، لأنه كان يركز في عمله على آثار متعلقة بالملوك والآباء التوراتيين، ولم يشر في كتاب له لاحقا حول المهمة، الى انخيدوانا، سوى انها ابنة الملك سرجون.
وتابع التقرير أنه في السنوات اللاحقة، اكتشف علماء الآثار واللصوص الواحا أخرى تحمل كلمات ونصوص انخيدوانا في مدن مثل نيبور ولارسا، لكن كتاباتها لم يتم نسخها او نشرها واسنادها اليها حتى اواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. واضاف انه في العام 1968 صدرت اول ترجمة لكتاباتها من السومرية الى الانجليزية.
أميرة وشاعرة وكاهنة
ونقل التقرير عن هالو وفان ديك في كتابهما الذي يتضمن ترجمات لانخيدوانا قولهما، أنها تمثل مجموعة شعرية من الدرجة الاولى ولا تكشف عن اسم مؤلفها فقط، وإنما ترسم هذا المؤلف بطريقة سيرته الذاتية، مشيرا الى أنه في شخصية انخيدوانا، نحن امام امرأة كانت في زمن ما، اميرة وكاهنة وشاعرة.
إلا أن الباحثين اقرأ بان الاعمال الكاملة لكتابات انخيدوانا غير مكتملة امامنا، إلا انهما اكدا على ان قوة طابع اسلوبها و قناعاتها في قصائدها المنسوبة اليها.
معرض دولي لنساء بلاد الرافدين
وختم التقرير بالإشارة إلى أن "معرض مورغان" الذي سيقام قريبا في نيويورك، يقدم انخيدوانا في سياق نساء بلاد ما بين النهرين الأخريات في اواخر الالفية الرابعة والثالثة قبل الميلاد، وهن عاملات، وكاهنات وكاتبات وآلهة من الإناث، وهو ما لم يركز عليه اي معرض حول حياة نساء بلاد ما بين النهرين من قبل ولا الأعمال الفنية التي تم جمعها، سواء في لندن او برلين او باريس او اماكن اخرى، وهو يعكس صورة للقوة الاقتصادية والسياسية والثقافية التي مارستها هذه النساء.
والى جانب ذلك، هناك صور لنساء يرعن الماشية وفي صنع الفخار ويعملن في النسج. كما تظهر احدى الصور رجلا وهو يقوم بنقل ملكية الاراضي لابنته، وذلك على عكس العديد من المجتمعات التي أتت لاحقا، حيث كان بإمكان النساء في بلاد ما بين النهرين القديمة ان يرثن الممتلكات. كما ان هناك تمثال لامراة مع لوح حجري في حجرها، وهو دليل على معرفتها بالقراءة والكتابة.
واعتبر التقرير ان مثل هذه القطع الاثرية تطيع بالافتراضات القائمة منذ فترة طويلة حول التعلم باعتبار أنه كان حكرا على الكتبة الذكور والنخبة، وحول النساء في مناطق الشرق الاوسط على أنهن مقيدات في المجال المنزلي.
ونقل التقرير عن استاذة فنون وآثار الشرق الادنى القديمة في جامعة كولومبيا زينب بحراني تأكيدها على أن كل الادلة متوفرة حول ان انخيدوانا كانت المؤلفة، موضحة أنه عندما تفكر بالمسألة "فمن المنطقي أن تكون امرأة راقية هي الشاعرة الاولى. كان لديها حياة مريحة، ومساحة للقراءة والتفكير، والمكان المتوفر للكتابة. لم يكن عليها العمل في الحقول او خوض الحروب. فلماذا لن تكون قادرة على الكتابة؟".