على ارتفاع نحو 10 أمتار عن سطح الأرض، تتربع تلة جصّان – أو ما يعرف محلياً بـ”تل الجبل” – في قضاء جصّان بمحافظة واسط، كواحدة من أقدم المناطق السكنية في جنوب العراق.
هذه التلة ليست مجرد مرتفع جغرافي، بل تجاوزته لتكون ذاكرة حية لأكثر من ألف عام من الحياة والبناء والمقاومة في وجه الطبيعة.
نشأة قديمة وتخطيط فريد
بُنيت التلة قبل أكثر من ألف عام، وتضم أكثر من 600 بيت شُيّدت من الطين وجذوع النخيل، ما يعكس نمط البناء البيئي والتقليدي الذي اعتمد عليه سكان المنطقة لمواجهة الفيضانات.
وتحيط بالبقعة ثلاث بساتين خضراء، وكانت التلة أشبه بقلعة طبيعية، تُشبه من حيث الفكرة قلعة أربيل، وقد جرى بناء سور بارتفاع 4 أمتار حولها لحمايتها من الغزوات في العصور السابقة.
سكن وكرم وتقاليد
التلة كانت مركز ضيافة واستراحة للضيوف من مختلف المحافظات، وكانت تُعرف بكرم سكانها وتلاحمهم، كما ارتبطت بأمثال شعبية بقيت حية في الذاكرة، من أشهرها: "جصّان يا أمّ النهل، يا أمّ المحنة، نزوروچ صبح وعصر ونذكر أهلنا".
وتحدث أحد كبار سكانها، غني حمود، عن تمسك الناس بتقاليدهم قائلاً: "نحن أهل (الشرجي)، معروفين بعلاج العصب السابع، ولدينا، فإن الفرح والحزن يجمع الكل، فعندما يموت جار، التلفزيون يبقى مغلقا سنة كاملة احترامًا للجيران وغيرها من العادات".
من أعلى التلة إلى الحي الحديث
مع توسع البناء وانتقال الأجيال إلى الأحياء الجديدة، بدأت أعداد سكان التلة تتراجع من نحو 500 بيت إلى أقل من 50 بيتًا اليوم.
لكن ما زال بعض السكان يفضلون البقاء في بيوت أجدادهم على التلة، متمسكين بجذورهم رغم غياب الخدمات والحداثة.
ذاكرة المدينة وغزالها الغائب
في السابق، كان نهر “الكلّال” يمر بالقرب من التلة، ما جعلها في مرمى الفيضانات، لكن مع مرور الزمن والتغيرات المناخية، جف النهر، وغاب الغزال الذي كان يزين سهول جصّان، ومع ذلك، بقيت ذاكرة المكان حاضرة في الأزقة، والمقاهي القديمة، والمدرسة الوحيدة، ووجوه من تبقى من أهلها.
مقاهٍ لها جمهورها
اشتهرت التلة في الماضي بوجود ما بين 5 إلى 7 مقاهٍ شعبية، منها مقهى المعلمين، ومقهى الفلاحين، ومقهى الكسبة، ومقهى العمال، وكانت المقاهي بمثابة نوادٍ اجتماعية يومية، يجتمع فيها أبناء الحي بحسب المهنة والاهتمام.
إرث شعبي بحاجة للتوثيق
تلة جصّان اليوم ليست مجرد منطقة سكنية قديمة، بل إرث حضاري وإنساني، بحاجة إلى التوثيق، والحماية، وربما الإحياء، فهي تختصر قصة شعب بنى بيديه، وصبر على الجفاف والفيضان، وورث الأمانة من جيل إلى جيل.