الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في اشعار مظفر النواب..
الخميس 04-06-2020
 
جاسم المطير

سؤال اول من نوع خاص: هل كان مظفر النواب قد ادخل مبادئ (التكنوقراطيا) الى القصيدة الشعرية .. حين عَنونَ قصيدته الشعبية الأولى، أحسن عنوان تكنوقراطي : للريل و حمد ..؟

هل نالَ رضا الشعراء الشعبيين ، بعد الريل و حمد ، ام انه أوجد لهم سمات جوهرية للثورة الشعرية ، التكنوقراطية ، الشعبية ، تماماً ، مثل خاصية سلالم التكنوقراطيا في بناء المصانع الكبرى لخلق السفن الفضائية و جعل المهندس في منظمة (ناسا) الامريكية خبيراً صناعياً.

تُرى هل كانت قصيدة (الريل و حمد) منبهاً بمستوى الصدمة الكهربائية للشعراء الشعبيين ، بما حملته هليوكوبتراتها من مدافع اطلاق عملاقة ورائحة بارود من نوع نابالم ، شعري، شعبي، تضمّنَ استجابة التكيف مع واقعيةِ قصةِ عشقٍ ، سيكولوجيةٍ ، متفجرةٍ بصورٍ مثيرةٍ ذات قدرةٍ استرجاعية ..!

ربما احتاج الى سؤال آخر أقل قسوة ، لكنه سؤال ضاغط ، حتماً و هو : هل أجاب النقد الشعري على أسئلة تجريبية ، متفتتة ، عديدة و كثيرة ، عن التركيز الذهني النقدي ، لمراقبة تطور القصيدة الشعبية، بعد مرحلة (الريل و حمد) بوصفها ثقافة تعكس تجارب طفولية – شبابية – وصولاً الى الهروب ، الكهولي، من الواقع المضطرب الى الواقع الضاغط ، أو إلى (عالم الخطر و الألم و بخس الالفة) بين عاشقين من عشاق العجز و الأذى في نموذج الريف العراقي .. أو الوصول الى واقعية ضعف الثقة الاجتماعية او التساند الإنساني..!.

ماذا حقق مظفر النواب بقصيدة (الريل و حمد) و بأشعارهِ الشعبية ،كلها، إلى الذات الداخلية في الانسان العراقي.. من نجاح ..؟ هل أوجد ملاذاً صادقاً بتجميل عالم الحب ، بتمثيلٍ شعريٍ، رمزيٍ، لتحويل ذات العشيق نحو العاشقة او تحويل نموذج الغيظ الشخصي الى محبة مشتركة من خلال تحقيق الذات ..؟ هل اصبح الشاعر الشعبي خبيراً في تقديم المشورة الى الحزب المنتمي إليه أو إلى عشيرته ..؟

نعم صار الاجماع الاجتماعي - الفني بعد ظهور ثريا (الريل و حمد) ، في سماء القصيدة الشعبية ، علامة منتمية ، كي يمارس الشعراء التكنوقراط كفايتهم الفنية ، النافعة ، بعد تقوية التلقائية الشعرية بالاندفاع المرتجل ، في إيجاد التأثير التكنوقراطي على النظم الشعرية تحت توجيه و ابداع رئاسة الأركان العليا في الشعر الشعبي، حين دخل مظفر النواب الى الملاك القيادي (قائداً عاماً) بفعالية نظم قصيدة شعبية أولى : الريل و حمد ، متحررة من الحواجز التعبيرية القائمة في القصيدة الشعبية ، جاعلاً من القصيدة الشعبية اللاحقة (جرح صويحب) و (البراءة) و (مو حزن) و (روحي ولا تكَلها شبيج) و (حسن الشموس) و (كَالولي) و غيرها ، باعتبارها فيزيولوجيا شعرية متنوعة .

حلّ الشاعر مظفر النواب بنزعةٍ فكريةٍ - ماركسيةٍ ، مشكلة (التناظر الشعري) بعيون جميع اتباع (الريل و حمد) بأنه (تناظر وطني) حلّ محل (التناظر العشائري) ، بمعنى أنهم ادخلوا مظفر النواب نفسه الى مواقف و ثقافات أشد تعقيداً ، لا سيما التناظر التعسفي بقصد تحريف الانتماء اليساري في شعر مظفر النواب ، جميعه. هذا التحريف جعل شاعراً فلسطينياً يستأذن (الذكاء) من نفسه على نفسه ، للطعن في الشعر النوّابي . على صعيد الأمثلة كان الكثير من مثقفي عصر صدام حسين في العراق اعداء لنوطة القصيدة المظفرية ، بالرغم من استقامتها الوطنية و من (نظرية الحب..) ، التي أظهرها صدام حسين ، نفسه، لهذه القصيدة ، عند مقابلته مع الشاعر مظفر النواب بعد إطلاق سراحه من الموقف عام ١٩٦٩.

برهنت قصائد مظفر النواب ، جميعها، انه لم يستخدم (التكنوقراطيا الشعرية) بقصد نزع الحق الثوري من الثوار و المناضلين العراقيين . بل انه أوجد صلة من نوع ما بين الشعر و الفلسفة الديمقراطية . ظلّ (التطور التكنوقراطي) في القصيدة المظفرية بياناً من بيانات الثورة او شعاراً من شعاراتها . لو كان الوضع الصحي الطبيعي متوفراً عند مظفر النواب بالوقت الحاضر فأنا على يقين ان تكون قصائده عن المتظاهرين السلميين ،كلها ، دعوة الى (الثورة بالقانون) اي الى ثورة سلمية اصلاحية . لكن المؤسف ان مرضه المتعارض مع قدرته على الكتابة الشعرية ، جعله غير متمكن من احتواء انتفاضة أكتوبر ٢٠١٩ المستمرة في ساحة التحرير البغدادية و ساحة ام البروم البصراوية و ساحة الحبوبي بالناصرية و غيرها. لولا مرضه القاهر فإن قصاده ستكون منتجة لمزيدٍ من (التكنوقراطيا الثورية) في كل بيت من أبيات اشعاره ، تنديداً بالمذابح الحكومية ، الكثيرة ، التي إحاطت بمقتل ٧٠٠ مواطناً و جرح حوالي ٢٥ الف مواطن عراقي . ربما يصير العراق كبيراً ، بكبر قارةٍ من القارات او بكبر بلدٍ مثل إندونيسيا على الأقل ، بعين مظفر النواب لان العراق كان كبيراً في شهداء انتفاضته التشرينية ، او انها ستكون مغمورة برؤيا نوّابية ، حيوية ، عميقة ، يجعل الوجود الثوري الشبابي ، فيها، مقروءاً شعرياً في إيقاع المدن و الارياف العراقية و ربما الارياف العربية ، بمعلمٍ جديدٍ من معالمِ الشعرِ الخصيبِ ، المفرط بالثورية .

الكلمة ، أية كلمة ، هي غاية و نهج و حرية . هل كان مظفر النواب في سني شبابه على ذكاء واع حين صبّ غايته على تجديد سيرة الخلية الشعرية في جسد القصيدة الشعبية و كلماتها ..؟ هل سعى اليها مظفر النواب ام انها كانت قصداً ليس مرتجى..؟ هل حمل (الرمزية) الى (الواقعية) لتصوير الأحداث الخارجة عن نطاق (الذات) ، بأسلوب الفلسفة الثائرة على مساوئ الحياة و منغصاتها و شرورها. هل أنجز الموقف الشعري بسبب الوراثة او البيئة او بدافعٍ من الاوصاف الخلقية و الاختيارية ..؟

اختصر الإجابة : اختار الشاعر مظفر النواب عقليته الشعرية من قدرة الاختيار المحدد بالالتزام في ادراك القيم الاجتماعية و الانسانية المستمدة من النظام الانساني ، العقلي ، الاخلاقي، الاجتماعي .

الكلمة الشعرية هي طاقة و دعوة الى النمو و الاتساع. اما ( الكلمة المضافة) في قصائد مظفر النواب فهي انتقال التاريخ و ممكناته في التفاعل الإنساني . على الأقل انها تأصيل التاريخ الانساني و تعاليه . السؤال ما زال كبيراً : هل تولى مظفر النواب ظاهرية (الانقلاب) في الشعر الشعبي ام انه استخلص منطق (الثورة) بهذا النوع من الشعر ، حين تنفس الحرية التجديدية، عندما بلغ القوة الشعرية و افعالها بقصيدة (الريل و حمد).

هنا في هذه المقالة ، ابتغي مسايرة (عالم الحرية) لإدراك المعايير العمومية و اختيار النظرة الواقعية ببعدها الأكبر و دلالاتها الاوسع ، في محاولة التعرف على حالة (التغير) في مقاصد شاعرية القصيدة المرتقية الى ذرى العقل و الإرادة و الشعر النابض في طبيعة العقل و الغناء و التاريخ بقصيدة (مرينة بيكم حمد و احنة بغطار الليل).

يقول الكثير ممن كتبوا عن كافكا انه كاتب شعر منذ بداية وعيه بالمسألة الاجتماعية ، بعمقٍ تامٍ، خاصة ما يتعلق بمسائل العمال و الكادحين . لكن هذا لا يشير الى انه غير معني بالمسألة السياسية . كلاهما ، مظفر و كافكا، نظرا نظرة مشتركة إلى ارتباط المسائل الاجتماعية بشقيقتها السياسية . لذلك انشغل مظفر النواب بنفس النظرة العامة التقريبية المندرسة في اعماق كافكا .

في نظري انه يمكن اغتصاب التاريخ من سمات القصة الشعرية حينما تعتمد طريقة تقييم مكانة مظفر النواب في الشعر الشعبي على الصلة العاطفية و عملية لم الشمل بين الشعر و التاريخ ، ضمن تقييم موروث الأسطورة الرمزية العراقية، التي أبدأ فيها ان الشاعر مظفر النواب كان (قصة خاصة) و (تاريخ خاص). قصة النواب متميزة في فنون الشعر ، كلها، و رؤيته الفانتازية لمنزلتها .

اما تاريخ مظفر النواب فهو مجابهته لاحداث فعلية فنتازية غير المنسجمة مع تطور الوطن العراقي . في البيت الشعري الواحد اصبحت قصيدة الريل و حمد كوناً شاملاً من الهموم الكبرى؛ (صيح بقحر يا ريل.. صيحة عشك) . الحب ، هنا، اصبح ثقّالة الحزن الدافعة الى صيحة عشق (صيحة عشك) موجهة الى (الريل) بانتظار استصلاح بيويولوجيا العشق الضائع . غالباً ما تسكن أمور العشق ، لا يحركها إلّا الشاعر . ليس كل شاعر ، إلّا إذا كان بمستوى خيال مظفر النواب مندفعاً بمقاربات مشاعر إنسانية .

في الحديث عن (معنى الشعر) و (دوره) في المشاركة بالتعرّف على ممكنتين روحيتين . الاولى تتعلق بالطاقة العقلية ، المادية ، المتفاعلة بزمانٍ معينٍ و مكانٍ محدد.

الثانية تتعلق بالقدرة على كبت (فورة الجسد) او إرجاعها الى تأدية الإبداع الجسدي ، الإنساني.

على الأرجح ، وجدتُ نفسي سريعاً، مكتشفاً ان اختصاص مظفر النواب من هذا المستوى.

للضرورة اقول ، اولاً : ان زفزفة الموكب تعني هَزيَزَه. اقول ، ايضاً، ان مظفر النواب حين يقرأ قصيدة من قصائده فأنه يزفّ كلامه زفّاً شمولياً صادحاً ، كما الطائر يزفزف بجناحيه، حين يدور بطيرانه. النوّاب يجيد الزفزفة.. يحرّك يديه وينشد بصوتٍ قاصفٍ، كي يهزّ قاعة المستمعين هزّاً ظافراً. هزّني شعره و هزّني صوته و هزّتني تناظرات اقواله في قصائده . لم تتحير صداقتي معه ، لأنها استرشدتْ بما استدل به كل واحد منا تجاه الآخر من أفكار، ربما قدم الاسترشاد من زحل، لكلينا . ما انقضتْ إلّا فترة قصيرة ، حتى انصرفتُ بكل قواي إلى تأكيد ما يدعو اليه مظفر النواب في قصيدهِ من مُثلٍ عاليةِ المقام و عقائدَ نشترك في صلاحها الاجتماعي. كانت أداته الشعرية تخوّله و تعاونه في نشر صوره الساحرة الجميلة عن مستقبل الانسانية ، ولو في احلام العصر البعيد .

زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في اشعار مظفر النواب..

    فهم الذات و لذتها

    مظفر النواب ، شخصية نضالية، امتلك نظرة عميقة الى واقع العصر ، في القرنين العشرين ، و الحادي و العشرين . كان من دعاة (التغيير) ، تغيير عالم الفقراء ، داخلياً و خارجياً.. الكفاح ضد كل معتدٍ و اعتداءٍ وتأمين العيش الكريم للفرد و المجموع و تجاوز معطيات الحياة العابرة و النضال من اجل مجموعة القيم الانسانية ، المضادة بأفكار و مواقف كارل ماركس من الحياة .

 

    سألته، ذات مرة، لماذا اختار (الماركسية) دليلاً في حياته السياسية ، اجابني: أن هذه النظرية هي القادرة على تمكين الحياة و الطبيعة و الأخلاق أن تنحني، جميعها، أمام الإنسان الباني لحضارته السامية ، تحت وظيفة العدالة الاجتماعية الكلية .

 

    جاء مظفر النواب الى الحياة ، ليس مواطناً عراقياً ، اعتيادياً ، انما جاء ليبلغ طلعة شبابه الواعي، كائناً من (كبار الناس) بامتلاكه قوة الذات الإبداعية و تحدّيه عالم التناقضات السياسية و الاجتماعية، جاهزاً للعمل الجماعي و مستعداً للتضحية بحياته من أجل جماعته، التي بها يضمن تأمين الاحترام الشامل لوجوده الإنساني . وسيلته الأولى كانت الكتابة الشعرية ، التعبوية و التحليلية ، بخيال زاهٍ و قدرة خيالية في تبين الموقف و الأسلوب في هذه الحياة . اختار في الحالين ، اعني في (الموقف) و في (الأسلوب)، طرازاً احتجاجياً لكشف و اكتشاف طبيعة حركة التقدم الإنساني الى امام . لم يذم الله لأنه خلقه في مكانٍ بائسٍ و في زمانٍ بائسٍ .. كلاهما ، الزمان و المكان أخبراه أن أسفار حياته ستتلّون، بألوانٍ مختلفةٍ ، اغلب لياليها تنغيص الحياة و جميع نهاراتها لا تبتعد عن هابيل ، المقتول و لا عن دهر قابيل ، القاتل .

 

    كل شاعرٍ حق يكون شعره من دونِ خوفٍ ، بصخبٍ او من دونِ صخبٍ ، لكنه يرجّ القاعة او ساحة الإنشاد و يزأر بها هادراً و هديراً . تنطلق قصيدته ذات الزعانف لتهز قلوب و عقول قرّائها . ذلك الشاعر هو مظفر النواب او تفجّر بموضعه او كما يمدّ دجلة ماء كثرته على جانبيه .

 

    لعل اهم ظاهرة عجيبة واجهتني بيوم قراء تي قصيدة (للريل و حمد) كانت ردّة فعل حفزتني ان اجعل نفسي في خط النار ، بالكتابة عنها بشيءٍ كبيرٍ من انطباعاتٍ انفعاليةٍ، قوية الانتعاش و التأييد ، من فرطِ شعوري بذكائِها و حساسيةِ مفرداتِها ونوعها التجريبي الجديد. تأصلتْ هذه القصيدة بما حملته من تكنيك ذوقي عال . كان ذلك قبل حوالي ٧٠ سنة . لكن شيطان الكتابة ما ألقى بي في بوتقة الكتابة عن بيئتها الانتقالية ذات الجاذبية السيكولوجية – الفنية إلّا اليوم فقد اكتملتْ عندي ، إلى حدٍ ما ، فرصة التجهيز لمهارة القدرة الكتابية الملموسة.

 

    حين فكرتُ بالكتابة كان شكل و محتوى تعاسة الانسان العراقي مختلفاً عن واقعها الحالي ، بل يمكنني القول أن كل شيء قد تغيّر . معنى ذلك احتمالية تغيّر شكل و محتوى صوتي و نظرتي عن (الريل) و عن (حمد) ، و عن قصيدة مظفر النواب ذاتها ، خاصة وأنها ، القصيدة ، كانت دليلاً لكثرةٍ من الشعراء الشعبيين لرفع قصائدهم الى نفس مستوى هذه القصيدة ، او ربما كان رنينها يصدح في أوراق كتاباتهم ، او ربما ابتعد عنها آخرون من كتاب الشعر الشعبي ، عن القصيدة الشعبية الجديدة ، حين ضعفتْ عقولهم امام ضغوط و همم تعليلات رجال دين و رجال تقاليد ليست عندهم قوة الصمود امام ترقية ابتكارٍ تجديديٍ ، متناغمٍ يضمن سهولة (التغيير) و (التطور) في الزمان الشعري ، النوّابي، الجديد بعد ان اقتحم الريل وحمد ، شعراء المدينة العراقية و اريافها ، وتماسكت اجتماعيا اغلب قصائد الشعراء الشعبيين الشباب . لكنني اعترف و اقول ،كثيراً، أنني ما خادعتُ نفسي بمحاولات الكتابة، لكنني ما وجدتُ نفسي قادراً ، طيلة ٧٠ سنة ، على الدخول الى مثل هذا النوع من الاستكشاف . وجدتُ أنني مرتهن ، بهذه المحاولة و معها، حملتها و حملتني ، كل هذا الزمان الطويل ، مع كل شرور الحكام المتعاقبين على دست الحكم العراقي و مع كل دفائن القوى المعادية قلوبهم لمظفر النواب و أشعاره ، الشعبية و الفصحى . حتى جاء يوم من ايام عام ١٩٩٦ حين التقينا مجموعة من العراقيين و الفلسطينيين ، بداري في منطقة الشميساني في العاصمة الأردنية . كان بينهم الباحث الدكتور سعدي الحديثي و الشاعر عبد الوهاب البياتي و الناقد محمد الجزائري و ٣ رفاق من شباب حزب الشعب الفلسطيني و ثلاثة شباب من أقربائي (عمار و علاء و سامر) و غيرهم . كما كان الشاعر الفلسطيني (وليد ابو بكر) قد حضر بصحبة صديقه العراقي (محمد الجزائري) و غيرهم من أصدقاء آخرين لا تسعفني سفائن هموم الزمان من تذكرهم . لم تكن هناك أية قضية ، سياسية او ادبية او سياسية او غيرها خارج نطاق الكينونة الحوارية في ذلك اللقاء ، كانت جلسة عشاء و سمر و موسيقى و غناء . حتى حان ، بالمصادفة ، وقت مجيء لحظاتٍ حواريةٍ حول مظفر النواب و أشعاره . كان العرض بادئاً بأحاديث الرفاق الفلسطينيين الثلاثة من أعضاء حزب الشعب الفلسطيني ، الذين سبق و ان تعهدوا بإقامة لقاء شعري - موسيقي يضم مظفر النواب و سعدي الحديثي في احد ملاعب كرة القدم بالعاصمة الاردنية ، عمان، بعد نجاح الندوة الغنائية - الفردية ، التي أحياها الدكتور سعدي الحديثي في المعهد الملكي الأردني . لكن أصول محاولة شبان حزب الشعب قد تقطعت برفض السلطات الاردنية .

 

    كانت الأحاديث ، في تلك الليلة ، تتشعب باتجاهات عديدة . عن بلايا العراقيين في بلدهم او تلك التي تكفخ هامات الفقراء المقيمين بالأردن البعيدين عن الأدب و السياسة عموماً. كان موج النقاش يهدر بين الجميع الى ان وصل الكلام ، على لسان الشاعر الفلسطيني الضيف (وليد ابو بكر) حين اراد ان يبرهن على فحولةٍ نقديةٍ، شعريةٍ، بإلقاء قصائد اشعار مظفر النواب في رحاب الهازم و المنهزم و رحاب تقسيم قصائده بين السيء بـ(أكثرها) و الجيد بـ(أقلها) حسب مراجعه التفاعلية الذاتية ، حتى احتسب نفسه رجلا ً ماجداً قبل ان يختتم حديثه بملخص القول: (ان اعناق قصائد مظفر النواب الفصحى لا تصل الى مستوى الشعر) و (ان دنيا مظفر الشعرية تتوسل في الشعر العامي فقط..). ثم طعن مشاعر الجالسين ، من دون ان يدري ، حين قال : (ان صوت مظفر النواب غير مسموع الا عند القليل من العراقيين الريفيين) ..! .

 

    شَعَرَ جميعُ الحاضرين ان الشاعر الفلسطيني وليد ابو بكر قام بتهويل بعض عباراته النقدية ، بقصد تصغير مكانة مظفر النواب الشعرية . لم يكن يتوقع ، هذا الصديق الفلسطيني ، ان يهب الرفاق الفلسطينيين الثلاثة من أعضاء حزب الشعب ، واقفين - على حيلهم - مشيرين بنوع من عصبية الكلام الى باب البيت، طالبين منه مغادرة المكان ، على الفور، أما إذا رفض فأنهم سيغادرون المكان . كان الزئير يخرج من الهامات الفلسطينية الثلاثة باستنكار أقوال الشاعر الفلسطيني وليد ابو بكر ، عن شخصية مظفر النواب ، الذي يسمو ، بنظرهم و بأوصافهم الى مرتبة المناضل من اجل حقوق الشعب الفلسطيني برمته. لم تنفع محاولاتنا مع الرفاق الثلاثة و إصرارهم بمغادرة الشاعر وليد و كان من فضائل تلك اللحظة إذعانه الى قرار الثلاثة المحبين لمظفر النواب و لشعره ففيهما يجدون خيراً للإنسانية الفلسطينية . هكذا زفّتْ ريح الشبان الثلاثة بسحبها و ترابها بالسيد وليد ابو بكر الى خارج هذه الجلسة ، لانهم وجدوا قوله امواجاً بعيدة عن سفينة الشعرُ المظفري و القصيدة النوّابية .

 

    في مرات عديدة جلستُ حائراً، امام اوراقي و افكاري ، حين كنتُ أفكّر بالكتابة عن دليلٍ من أدلة النبوغ الشاعري عمّا اكتشفته في نهج مظفر النواب واحتراساته. غرس مظفر نهجاً تجديدياً احرق فيه عهود كتابة الشعر الشعبي . وجدتُ في عملية هذا الحرق ، منذ النظرة الاولى ، منذ القراءة الأولى، ان هذا الشاعر ، بالذات ، يخفي دهراً جديداً من الشعر الشعبي ، المرتدي ثوب (الريل و حمد) . شربتُ مرارة حيرة الكتابة حين قرأتُ ، قراءة ليست عابسة بالرغم من ان مكان القراءة كان دامساً . قصيدته ( للريل و حمد) . كان ذلك في عام من أعوام منتصف الستينات في اثناء وجودي مع هذه القصيدة الشعبية ، ذاتها، و مع ناظمها ، الشاعر مظفر النواب ، بمكان الحزن و الوجوم في نقرة السلمان . كنتُ قد قرأتها ، قبل ذلك الوقت ، مرات عديدة . صنتها و حرستها ، كما تصان الأموال و الشواهد الثمينة . وجدتُ ان هذه القصيدة قد ارتفعتْ ، بنفسها، و بالشعر الشعبي، الى ارفع منزلةٍ شعريةٍ فيها صناعة ماهرة و باهرة تخلو ، تماماً، من اي شكل من أشكال (التصنع الشعري) ، ليس في شاعرية مظفر النواب اي نوع من أنواع تقليد الآخرين . بمعنى ان البراعة المظفرية كانت صادقة بولعها التام بالإبداع التجديدي.

 

    اجد من المسؤولية الأدبية ان أحدّد، في ما يلي ، كتلة البناء الأساسية، التي استخدمها الشاعر مظفر النواب في قصيدة الريل و حمد إذ قوّمها على ذهنية انعاش المؤثرات الحسية و تكثيفها التفاعلي ، لدى القرّاء ، كما يلي :

 

    اولاً : أبدأ بعنوان القصيدة .

    لم تكن كلمتا (الريل و حمد) مجرد ايراد اسمين مجردين (الريل) و (حمد) و لم تكونا محاولة خدعة لقلوبِ قرّاء حائرين او مضللين .. لم يكن هذا العنوان الشعري تقليداً، انما كان حُسناً من محاسن القصيدة النوّابية الأولى . أوجد لذّة السمع عن احدى وسائط النقل بين المدن العراقية . كان (القطار) يوفرها بكل غضونها و اصولها . يجد الناس في القطار (لذّة ) الانتقال به من البصرة الى بغداد او الناصرية او الى الديوانية او من بغداد الى الموصل و كركوك . تتوسع (لذّة الانتقال بالقطار) اكثر و اكثر حين يسعف الحظ ، من دون تردد، عندما يتدبّر المسافر ركوب (القطار) الى تركيا و الى أوربا ، بحسب بعض حظوظ المتمكنين برحلات أوروبية ، للدراسة الجامعية او للبعثات الدبلوماسية . كان كل مسافر الى لندن او الى باريس او فينا او برلين او غيرها يشعر انه انسان وهّاج مثل السندباد البحري ، الذي كان يطل على الدنيا من ابواب الرحلات .

 

    لا شك ان مظفر النواب اراد من عنوان قصيدته (للريل و حمد) أن يصبح (خبيراً) ليس بمعنى ان يحمل اسماً من اسماء الله (الخبير) ، لكن بمعنى اخبارنا بالأمر بصورة غير قابلة للتفسير او للتأويل ، اي انه (اخبر) قرّاءه بحقيقة لم يكونوا يعرفونها، اي أتاهم بنبأ جديد . كانت القصيدة من اول بيتها حتى اخر واحد فيها تحمل (أنباء) جديدة بمفردات جديدة، استلّها من مزادته اللغوية الشعبية ، الغزيرة . كاشفاً عن حالة من حالات (الحب الاليم) التي خسرت فيها الحبيبة عهداً و أماناً من حبيب أعطاها عهداً و أماناً ، بمصابٍ باطنٍ حَدَثَ بمقلوبِ حالٍ لا يراه الناس وفاءً لعهد و أمان .

 

    ثانياً : الاستبدال ..

    الاحتمال الكبير ان الشاعر مظفر النواب استبدل كلمة (القطار) العربية بكلمة اخرى ليست عربية هي (الريل) لشيء من الإثارة فيها و لأن دهرها ركب اعمار الناس الصابرين على ضيم الاحتلال البريطاني ، كلّه . خَبَطَ الشاعر مظفر النواب خياله ليكشف (آلام) كلمة (الريل) و ظلمها . أنعمتْ هذه الكلمة على القرّاء بصدمة الانتباه الى استخدام كلمة (الريل) و هي ليست عربية في الشعر الشعبي العربي ، لكن القصيدة جعلتها حجّة ذكية من حجج التجديد المظفري. صارت حجة (الريل) بعد 70 عاماً من وقوعها ، تتجوّل في عديدِ اللقاءات التلفزيونية، المحنكة و غير المحنكة ، التي يقوم بها ، بهذا الزمان ، برنامجيون ، تلفزيونيون، للتعرّف على طقوسية العاشقيْن المنتسبيْن للريل و حمد ،بقصد تقييم القصيدة و ترويجها وشرح تفاصيل جبريتها بعالمٍ حقيقيٍ، ليس عشائرياً و لا طائفياً و لا معادلاً لشيءٍ مفقودٍ من الانتماء الى ثقافة اجتماعية ، ليست مكتملة ، بالمجتمع العراقي .

 

    ثالثاً: ثبات المرأة..

    جرى التأكيد في مطلع القصيدة عن ثبات المرأة في حبها وهي في (قطار الليل) و هو بكل الحالات ليس قطار السرور او قطار اليوتوبيا ، بل هو (قطار الهموم) يدمج وظيفة طقطقاته مع تفكير الراكب و رهبانيته و أحلامه بالترف و حسابات الصراع الضحل في تفاؤله و الأسطوري في تشاؤمه مع الاستهلاك اليومي ، المترف او الزاهد ، بمعظم المدن و الأرياف العراقية ، في اطار الكفاح اليومي الصعب ، للإنسان العراقي ، من اجل (البقاء للأصلح) و مقاومة الوقت العصيب . إنه قطار من نوع لا يغتفر عن ذنوبه و لا يعتذر لأية عاشقة ولهانة تسيّرها عيوب الزمان . بينما تنظر اليه المرأة بمعزف المتعة و الهوى في المرور بــ(غطار الليل) بثنائيةِ احساسٍ لا تضيع على كل عراقي او عراقية من وارثي حسرات العشق . إنها ثنائية فولكلورية عراقية متنافسة و متوازنة ، ثنائية سماع (دكَ الكهوة) و (شم رائحة الهيل)، اجمل ثنائية بالريف العراقي ، خالية من العيوب و الآفات .

 

    رابعاً: تكرار اللازمة ..

    كانت كلمات القصيدة مبنية على اللازمة المتكررة (هودر هواهم .. ولَك .. حدر السنابل كَطة) . كلمة هودر في هذه اللازمة تشير بوضوح الى المغالبة و العناء ، انطلق بها الشاعر الى كربة الهموم المتسربة الى قلوب الحبايب ، الذين يعشقون بعضهم بعضاً . كل كلمة من الكلمات الست ، بهذه اللازمة ، تحمل طاقةً منعشةً بالسماعِ الانفعالي ، المعبر بذكاء ، عن عميقِ ما في آفة الحب من قوة حاسمة و مهارة تكتيكية قوية . هنا ، اختار مظفر النواب طريقةً حسيةً، تعبيرية، فائقة ، جاذبة ، الى خيرٍ ، مسرّته موجودة و ناطقة ، تحت سنابل الارض . ان مظفر النواب بلازمته الشعرية ، كشف وفاء المرأة العاشقة لحياة من تحب من خلال ارضاء من تحب .

 

    خامساً : العجب و الاعجاب..

    ربما كان الكثير من (مفردات) القصيدة يثير (عجب القرّاء) بنفس القدر مما وقع عندي من اعجاب في اعلى درجات المتعة الشعربة . أراد مظفر ان ينحت من قصيدته ( تمثالاً) رمزياً من تماثيل العشق الانساني ، في العراق الحديث . كان قد اختار معوله النحتي بالشكل الدلالي و المعنوي داخل او حوالي كل (مفردة شعبية) من مفردات القصيدة ، المتميزة بمعانيها الفطرية او الدلالية . بصراحة تامة اقول ان رياح القصيدة قد اعجبتني ، مثلما أعجبتْ آلاف الشبان و الناس المولعين بقصائد العشاق ، التي تعبر عن معنى خاص ، و تكشف عن ذكاء الشعر العراقي و نهوض عقلانيته الفلسفية على وفقِ نهجِ مظفريٍ خاص . ربما كان في هذا النهج (أمرأً) موجهاً إلى شعراء آخرين بعد قصيدة الريل و حمد باتباع نهجها، لرفع كمال الشعر الشعبي و الفصيح ، أيضاً ، في الزمان اللاحق .

 

    نعم .. أقنعتني القصيدة المظفرية بمذاهبها ، منذ اول يوم رؤيتي ابياتها متزينةً بعظمة معانيها و انا أواجه شعوراً غامضاً ، غلب عليه (الخير) الذي سيؤدي ، بكل تأكيد و يقين ، الى عملٍ شعريٍ ، شعبيٍ ، وجيهٍ ، و بصيرٍ ، خلال قراءتي الاولى في عام ١٩٦٠ كأنما كنتُ راكباً على عفةِ حصانٍ اضطربَ خوفاً من الوقوع الى تحت و انا استجد بإشعار جديدة (النظر) و (الشعور) و (الاثواب) ما وجدتها لدى جلال الدين الرومي و لا عند ابي العلاء المعري ، الشاعرين المحبوبين ، خفيةً ، بذاكرتي ، و لا عند المتنبي ، الذي كانت ابواب معاني قصائده مغلقة امامي، لصعوبة مفرداتها و فروضها العقائدية . تجاوز الشاعر مظفر النواب (حدود) المهام الإبداعية ، المتاحة من خلال نموذج صياغة لغوية عالية التاهيل و الحركية في التقريب بين علاقتين، إذ حقق تناغماً عظيماً بين اللهجات الفراتية و الجنوبية لإيجاد مفاهيم لغوية واحدة ،معتبرة، عند أهالي مساحة، جغرافية، عراقية، واسعة . كما سجل في اللغة الموسيقية لهذه القصيدة، تطبيقاً شمل قدراً غير قليل من التصميم اللغوي، المقرّب بين المفردتين ، العامية و الفصحى .. لقد قلب أنماط إنتاجية صناعة الشعر العراقي ، بقصيدته، المعتمدة على نظامٍ شعريٍ متفوقٍ .

 

    لعل زمان اختفائي في لواء الناصرية عام ١٩٦٠ -١٩٦١ حيث اناط الحزب الشيوعي بي مسؤولية قيادة اللجنة المحلية في الناصرية . كنت هارباً من عنف السلطة البوليسية بمدينتي ، البصرة . قرأت القصيدة القادمة على ظهر مجلة ثقافية بغدادية ، و هي مجلة من بنات عم ثقافة الحزب الشيوعي العراقي ، الذي تفرغتُ للعمل ، سراً، بخلاياه في مدينة الناصرية . كان انحيازي لتلك القصيدة من دون إفاضة بأسئلة تبدأ بكلمات لماذا و كيف و ما معنى ..؟! و غير ذلك من الأسئلة الأخرى . غارتْ القصيدة في نفسي حال قراءتها . تبرّج عجبي عن سبب وجود فيض عواطف الشاعر النواب حيث أعجبته ، أيما أعجاب، قصة المرأة ذات اللوعة بطرف القصة ، الاول. ها هو مظفر يقول ، او انه ادرك ضرورة الصيحة العالية : (يا ريل بلله بغنج من تجزي بام شامات .. لا تمشي مشية هجر كلبي بعد ما مات.). اي كلام شعري - شعبي هذا..؟

 

    لم يكن كلام القصيدة مجرد كلاماً بجانب كلام ، بل هو كلام فوق كلام و من تحته كلام . هكذا كان ظمأ القصيدة لا يشبع و حواس شاعرها لم تبلغ حدود نهاية القصيدة . ظل خيال شاعرها يتدفق بما حمله و يحمله قلب العاشق من وادٍ خصيبٍ متأهبٍ لاستقبال و احتضان الفرح او استقبال صدى فرح قديم . هنا أشير الى جمالية المقالة التي كتبها الشاعر الجمالي ، الشعبي ، (ريسان الخزعلي) ، الذي استحق – بنظري - درجة النجاح العليا في امتحان مقالته المنشورة في جريدة طريق الشعب في ٢ نوفمبر عام ٢٠١٨ عن قصيدة (الريل و حمد) حين دقّق و أبصر أهم مزايا ،شاعرية مظفر النواب، بسطورِ التناسب الهندسي في نبضات قصيدة شعبية واحدة، اخترعت لأحفاد البابليين عقلاً شعرياً جديداً ، لصبغ حياة الناس بصبغة المدنية المعاصرة ، خاصة و ان ناظم القصيدة كان حذراً جداً من الوقوع في محاباة الفلسفات الشعرية غير الأصيلة . وجد الشاعر الخزعلي ان المصنوع المظفري قد اختصر الوقت و الأساليب امام الأجيال الشعرية القادمة .

 

    هنا في هذا البيت الشعري القصير جعل القاريء مع الشاعر - الناقد ريسان الخزعلي ، واثباً من على كرسيه بشيء كثير من هدى و رشد . كأن ناّابي ئماً آفاق على صوتٍ حادٍ لا يريد ان يرثى قلبَ عاشقٍ لم يمتْ، بعد . رسم الخزعلي بمقالته صورة تؤكد (بقاء النوع) الانساني الأفضل ، من العشاق و المحبين .

 

    البيت الشعري النوّابي غطّى على سمع القارئ و بصره، بتلك النفقة الشعرية الصادرة من العمق القلبي المسحور بالإخلاص . لَهَجَ مظفر النواب بعبارتين حملتْ جوانحهما نوعاً من الشوق العاطفي العالي في اللفظ و المعنى، من خلال لوعة الرجاء الى القطار ان يحن و يشفق بما وهب من كلمات من مثل كلمة (تجزي) و هي كلمة جنوبية - فراتية بمعنى (تَمرّ) تجنب الشاعر استخدامها حتى لا يتكرر قول (المرور) اذ ربما يحدث (ضرراً سمعياً) على جمالية استهلال القصيدة ب (مرينة ... بيكم حمد ..) . كما ان مجيء مصطلح (مشية هجر) كان فيه رزق و ملائمة لفظية بين الفصاحة و العامية. حيث صار هذا البيت الشعري حاملاً (طلباً) عميقاً، منتظراً (جواباً) عميقاً حتى لو كان ارتجافاً قلبياً ، مجرداً و شديداً ، لان قلب العاشقة لم يمتْ ، بعدُ. رغم ان العشق ، بطبع العشاق ، يخشى الرفق و السلاسة إذ المعروف عنه واقعه ، بشواهدِ شواظهِ الاليمة ، اللاذعة ، خاصة في حالة الفراق المُبهم في حقيقته، حين ينتاب العاشق او العاشقة شوق يخمد ، مرة ، و يفور مرة اخرى ، مما يحرم العاشق او العاشقة هناءة النفس و راحتها . ربما اراد الشاعر النواب ان يقول بأولى قصائده الشعبية : لن تظل المرأة العراقية مستعبدة ، و لن يظل الشعب العراقي مستعبداً اذا عرفتْ المرأة العراقية طريقها الى نيل الحرية . مثلما كان الزعيم الهندي غاندي يملك معجزة (الحرية) الخالدة في بلاد الهند العظيمة و قد حققها بنقلها الى اعلى و أعمق من جبال هيمالايا و إلى جميع سكانها .

 

    سادساً : جاءت العبارة الشعرية ، التالية، محرومة من الابتسام لأن زمان العشق صبّ على المرأة العاشقة ، مصاولةً قاسيةً جداً ، تتلخص بقول مظفر النواب : (جيزي المحطة بحزن وونين يفراكين.. ما ونسونه بعشقهم عيب تتونسين . .. يا ريل جيم حزن أهل الهوى امجيمين .). ما اراد مظفر النواب آلوقوف امام وثنية اللغة العامية و هي منظومة لغوية شمولية بين الناس من سكان القرى و الارياف ، على وجه التحديد. انما تحول قلم مظفر النواب الى دعامة (التكنوقراطيا) ، كي يقدم لغةً اخرى ، عاجلةً، ليست وثنية. اراد ان يكون شعره خفّاقاً، فيه ادانة للظلم البشري ، لكنه ، بنفس الوقت ، حاملاً قيمة عليا، على ضوء القوة الزمنية ، الاخلاقية ، القادمة الى القرن العشرين من قرون سقراط و أفلاطون و ابن خلدون . حيث الثورة الحقيقية هي ثورة ثقافية ، اخلاقية ، اجتماعية ، تزعزع جميع ما هو ليس فضيلة إنسانية .

 

    اختار مظفر النواب ، مرةً اخرى ، كلمة (جيزي) بدلاً من كلمة (مرّي) . الاولى خشنة يتضح فيها فعل الامر واضحاً بالصوت الاقوى من كلمة (مرّي) التي ليس فيها نفس مكمن انتفاضة الغضب في حديث الأنين مع (عربات) القطار ، حين وجد ان من الخير تسميتها بروحها الشعبية السارية (فراكَين) و هي جمع مفردة (فاركون) الأجنبية باللهجة العامية ، التي هي واجمة بدون ترجمة (fargon) عن اصل كلمة (عربة) باللغة الانكليزية ، وهي الكلمة الأكثر شعبية و استخداماً من الكلمة العربية، في تلك الفترة من فترات تطور الحديث باللهجات المحلية . بذلك احس الشاعر النواب باستراحة (أهل الهوى) الذين ينطلق من صدورهم أنين الأحزان.

 

    من هذا المنطلق، أرى خيالاً معلوماتياً – تكنوقراطياً آخر في المشهد الشعري لقصيدة الريل و حمد و هو ان انفراد الشاعر مظفر النواب بالمصنوع في شعره الشعبي بشرف قصيدة (الريل و حمد) كان قد قدّم مثالاً واضحاً على موهبته الخالدة في عالم البناء الشعري - الشعبي. حيث حوّل (الفطرة الشعرية) إلى (طاقةٍ فكرية) . بمعنى ان طاقته الفكرية كانت اختراعاً انسانياً ، من اختراعات مجهوده الذاتي، مبعداً نفسه عن (التقليد) و عن جميع شوائب الصنعة الشعرية ، الفنية ، التقليدية ، مؤكداً ، بذلك ، ان الدنيا تكشف ، دائماً ، عن جمالها ، عن طريق الضرورة . كذلك فأن مظفر الشاعر ، من وجهة (نظر) و (فعل) مظفر النوّاب ، نفسه، خلق مقياساً مهماً في العلاقة بين الشاعر و الدولة . الشاعر على وفق نظر النوّاب لا يحتاج الى الدولة و مقاييسها للاعتراف به ، بل ان مقياس القيم الاساسية يقوم على ابداع الشاعر ، نفسه ، و تجديده للمطروح الشعري . التجديد الشعري الحقيقي لا سلطان عليه غير سلطان الشاعر الفذ. لا شك ان القول الصحيح ان الدولة العراقية في كل مراحلها لم تعترف بالأدباء العراقيين الحقيقيين من امثال مظفر النواب و محسن الكاظمي و معروف الرصافي و سعدي يوسف و محمد مهدي الجواهري و عبد الوهاب البياتي ومئات غيرهم . بل انها اعترفت بأقل من هؤلاء عطاءً او مزيةً شعريةً او سمعةً وطنيةً او نضاليةً و منحتهم ، بجميع العهود ، ايضاً ، خاصة في عهد الدكتاتور صدام حسين مكاسب معيشية ضخمة بإغداق الأموال و الألقاب عليهم و غيرها لأن شعرهم كُرّس لمرضاة كبرياء (الدولة العراقية) او السير وراء سياسة الحكومة بمنتهى التبعية ..

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
يعملون في عيدهم.. 1 أيار "يوم بلا فرحة" لعمال العراق
التغير المناخي "يُهجّر" 100 ألف عراقي من مناطقهم
مداهمات واعتقالات في جامعة كولومبيا.. والسبب غزة!
كيف أصبح الأول من مايو عيداً لعمال العالم؟
بعد سنوات من التعثر، هل ينجح العراق في إنجاز طريق التنمية؟
ردود فعل حادة بعد إقرار "قانون المثلية الجنسية" في العراق
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
ندوة اللجنة الثقافية في الإتحاد الديمقراطي العراقي في كاليفورنيا
البرلمان العراقي يمرر قانونا يجرم "المثلية الجنسية"
في عيد امنا الأرض، أطفالنا في خطر
مقتل نجمة التيك توك العراقية "أم فهد" بالرصاص في بغداد
انتفاض الطلاب الجامعيين ينتقل من جامعات أميركا إلى باريس، رفضاً للسياسة الأميركية تجاه الفلسطينيين وقطاع غزة
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة