كم من لهفة بي لأسمع نبرة صوتكِ في تكتكات اللحظات الأولى، كم يطحنني الشوق إليها، لا أظن أن الوقتَ كان صباحاً أو ظهراً أو عصراً أو حتى ليلًا عندما اشتغلت آلته تتكبد خسائرها تباعاً، وكل شيء أعمى وصانعها الأعمى يتأرجح بين المعنى وظله !
- ظله؟
ومن أين سيأتي النور فيكون الظل؟
حتى شطفهُ بلمسة سحرية جعلته يتأنى برحلته ليدلقها على عينيكِ قبل أن تكونا مضاءتين. عابرتان للعتمة، صاغرتان لشفيف الضوء؛ بدءًا، حتى لامسهما صانعهما بجرة كحلٍ سرمدية لتترك دبقها وغمائمها وتشع قطرتا ندى باذختا الفن لصانعهما الأعمى. ترى هل كان يفكر بتلك الجوهرتين الصامتتين اللتين صدمهما الضياء المشبع بحب المظهر وجمال الصورة ومقام أرحب؟
لا اظن أن الوقت كان كلماتٍ، ولا حتى إشاراتٍ تتوزع لتحاكي الموجودات، بل أصلاً لم يكن هناك شيئاً يذكر، ربما كان هناك مطرًا وسحاباً إهليجي النزعة، أو على اكثر تصور هضبة وجوف مياه أو جرف، من يدري إن كانت بركة ضحلة أم نبعا من فردوس أعلى! كان الأعمى يتصور!. لا اعتقد أنه كان كذلك!، فلم يكن له مخاً أو عقلًا يرشده لتبهره يقظتك، ولا عينين، فكيف صنع عينيك؟!.
على الأغلب كان الجو ايلولياً، وهذا الأيلولي المشتبك حتى مع نفسه، ينازعها؛ لا صبر له ليرمي ورقة مطعونة بشغف الريح في زمنٍ لزمن آخر، أما زمن عماه، وزمن العينين الناظرتين لدهشةٍ شغلت نفسها عن صمته تفجر بركانا بالقرب فكان القلب!
أين يكون؟
يسفُّ فضاءً ليصبح وجود العينين فتيلاً بالقرب من شمس لم يصنعها على الأرجح، وما زال الايلولي الأعمى يحاول ويحاول ثم يحاول حتى سبقه شغف العينين لاكتشاف المعنى الذي لم يكشف عن سر تشكّله من حرفين:
حاءٌ للحب وباءٌ للبدر فأصبح وجها/وهجا للكون، بإبدال طفيف! وما زال الصانع الأعمى لا توقفه تكتكات ساعته الأزلية ليزيد على صناعته بهاءً، وسلطة تكوينٍ تنثر اشياءَ لا تحصى، ملونة ليس لها من أسماء فسبحانَ العينين الناظرتين منحتهما ختم الأسماء ورقتها، فللنبع نزيف وللفراشة رحيق، ولكل شيء يعرب عن نفسه منبتهُ فيزيد ويزيد ويبقى سرهُ مؤجلاً حتى حلّ غيابه.
هو لا يعرف سره، ولا كنه الأسرار فوضعها بتكتكةٍ من ساعته العمياء ليلهو بها سبحانه! فهل ستنظر تينك العينان لجبروت غير فصيح اللون وذكاء العطر وسلامة ساعته وسلالتهِ الدائرةِ بالأبراج كحد أدنى، وهذا السهم الى أين سيمضي؟ «محتجبا عن عيني» كتحوير لأبن الرومي جلال، مرتميا للعشق بطعنة نسيم مرّ جزافا من أعلى الحاجب فتلقفه الرمشين!. فمن أين سيأتي بالسرِ، والسرُ محتجبٌ عن عينيه؟.
آه كم تلوج الروح للمحِ ضياء خاطف شاغل عينيها، حتى تعشّقَ بالعشق كمخمل فيروزي اللون، فكم احتاج البحرُ والطيفُ الأزقِ من فوقه ليكونا بلونه وشدة تعلقه ببعضهما بعضا، ومن هذياناته أيضا!، تلك التي انصرفت لهرفٍ آخر تصبى في جلجلة الريح وصخب الموج وتشظي الصدف عن اللؤلؤ.
فيبقى عصف الروح لصانع ساعته الأعمى حزينا صنعها من دون أدوات تذكر غير الحرفين، ولم يعرف ما أغدقه بقلبي فترك الساعة تدور وتدور كما هذا الكون المبتهج بصورته وهيبته وأبديته، بضيائه وظلامه، بجماله وغطرسته، بقربه وبعده! فكل شيء يولد ويموت في حبهما حبا فقد صنعته اللحظة في خاطر صانع تلك الساعة، تركها تدور وتمضي ويمضي لمحَكِ كما عجلتها، ومؤشرها يدق تك تك تك تك.... ثوانٍ كونية الى ابد الساعة حتى يطحنني صمت صانعها الأعمى، فأموت ويبقى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صانع الساعات الأعمى عنوان كتاب اقترضه العالم (ريشارد دوكنز) من رسالة مشهورة لـ وليم پالي عالم اللاهوت في القرن الثامن عشر، وهي رسالة عن «اللاهوت الطبيعي» التي نشرت في ١٧٠٢ويقول هي أحسن عرض معروف عن «لجة التصميم»، فآثرت استخدامه هنا بصفة أدبية.