الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
قراءة لرواية محطة قطار براماتا - 2
الأربعاء 31-12-1969
 
حمزة الحسن
غالبية ما يكتب من نقد عن نصوص روائية عراقية حديثة يأتي من خارج الحقل الادبي، سلبا أم ايجابا، بل لا علاقة لعلم تحليل النصوص به أبدا. ودائما يتم تحميل النص الروائي وغير الروائي ما لا يحتمل بعد تلبس مفاهيم من بنية نقدية مجلوبة من الخارج

وكتبت عن اعمال اخرى ولا تصلح معيارا لنقد كل النصوص، ولكن هذه طبيعة الاحوال اليوم في زمن الانترنت
من مباهج حياتنا الثقافية أمس واليوم انه من النادر ـ بل من المستحيل احيانا ـ ان تجد كاتبا مخضرما أو نصف مخضرم يقف على منصة واحدة مع كاتب شاب ويقدمه الى الجمهور العام، ومن النادر بل من المستحيل احيانا أن تجد كاتبا مخضرما أو نصف مخضرم يعرف بكتاب لشاعر أو روائي أو ناقد شاب في مقدمة أو مقال أو ان تجد صورة مشتركة لهما الا اذا كانت مصادفة أو في مشرب، لأن هذه" الخطيئة" قد توقع الكاتب المخضرم أو نصفه في خطأ كوني لأن الالهة معصومة من الأخطاء، وهو أمر لا نجده في تقاليد كل شعوب الارض وهو جزء من الحالة العامة المنحرفة التي نعيشها:  في السياسة كما في الثقافة هناك  الهة وحرس قديم وعلى الطرف الاخر بشر من طين ومشاعر، مع ان الساسة هذه الايام صاروا أكثر حصافة وذكاءً في تقديم  الساسة الجدد وخاصة الشابات ولو على سبيل الديكور وغيره
 لن نثقل هذا النص الشفاف بمفاهيم من خارج بنيته الروائية، كما ان من المهم توضيح ان وجود قواعد عامة لكتابة الرواية يعد اليوم ضربا من السخرية، لأن الرواية تولد خلال الكتابة وليس قبلها، والشخصيات وان كانت واقعية ومحددة الاسماء الا انها في البناء الروائي هي شخصيات روائية ومن العبث تحليل طبائع شخصيات زولا مثلا بالاحالة على نماذج بشرية حقيقية كما يقول الناقد الفرنسي برنارت فاليت في كتابه القيم والمتتع" النص الروائي: مناهج وتقنيات" وعلى رأيه ايضا ان اسلوب القراءة" الجمع" لم يعد قائما
نحن لسنا ثكنة أو منظمة حزبية أو كنيسة لكي نحلل نصا ادبيا ونصل الى الاستنتاجات نفسها كما كان يحصل حين كانت توزع رواية" الأم" لغوركي على التنظيمات الحزبية  ويتم " اختبار" طريقة الفهم وطريقة التفسير الموجود في حقيبة الرفيق وهو تفسير واحد وحيد كما يحمل الكاهن أو القس شروحه للنص الديني
عبد اللطيف الحرز بدأ مغامرته الروائية في زمن عراقي صار كثيرون فيه يهربون من المغامرة الابداعية، تهربا أو عجزا أو ياسا، وفي زمن تصاب فيه المغامرة بالعطب، يكون الابداع الوحيد هو انتاج العطب وتكراره. الحرز قدم حقل الرواية من داخلها. جاء من مدن تنام وتستيقظ وتحيا وتموت على حكايات خاصة وانه من الزبير حيث تتجاور بيوت الاحياء مع بيوت الموتى: مقابر متصوفة أو مقابر ثوار أو مقابر مجهولين وغرباء قدموا عبر الصحراء وماتوا لكنهم " انتجوا" أو خلفوا حكايات ظلت منذ قرون وحتى اليوم تنتج حكايات اخرى في تناسل لا ينتهي
لهذا السبب فإن تحليل أو قراءة أو اعادة انتاج روايته يتطلب قراءة عارية أمام نص لا يخضع الا في حالات محدودة لبعض قواعد عامة تتعلق بالفن الروائي، وحتى هذه القواعد كما قلنا تتلاشى يوما بعد يوم، لأن الرواية تحمل تجنيسها من داخل سياقها البنائي وليس من العنوان على الغلاف أو من رغبة المؤلف أو من مفاهيم نقدية جاهزة يتم تلبيسها على عجل
 هذه المغامرة المزدوجة: مغامرة الكتابة ومغامرة المكتوب، اي البناء والبنية، هو ما يستحق القراءة الجادة والمعمقة، حتى لو كانت تقود صاحبها الى مناطق أبعد من النص المنقود وهذه طبيعة القراءة الحية المكتوبة عن رواية حية لكاتب شاب وموهوب وجرئ
تبدأ محطة قطار براماتا بحديث عن مقبرة شيخان في مدينة قم وكيف صارت ملاذ الاحلام. مفارقة مهمة ان كاتب هذه السطور يتعرف مرتين على هذه المقبرة: مرة حين كان يزورها في قم كملاذ للاحلام، ومرة اخرى حين وجدها في هذا النص. وكذلك شارع جهار مردم ـ الأئمة الاربعة ـ في قم الموصوف في الرواية والذي عشت فيه أوقاتا طويلة وأمكنة أخرى تتعرض لها الرواية. اذن ان الأمكنة ليست متخيلة ولكنها حقيقية رغم ما في ذلك من تجاوز على الحقيقة: ان المكان الحقيقي كالشخص الحقيقي لا يعود نفسه حين يصبح نصا
تبدأ الرواية من مقبرة شيخان وتنتهي في محطة قطار براماتا في سدني: المحطة مكان مغلق وكذلك المقبرة، ولكنهما في النص مكان استعادة احلام منزوعة. المقبرة مكان ثابت يحدثنا عن النهايات والمحطة مكان متحرك يحدثنا عن السفر والمشاريع. لكن ايضا المقبرة مكان وداع وزيارة وكذلك المحطة امكنة  وداع ولقاء: في كليهما حضور للمكان الأصلي ، الهور. اي ان المكان الأصلي يكتسح في غيابه حضور المقبرة والموت وحضور المحطة والحياة
الراوي الذي اعلن عن اسمه في بداية الرواية ثم اختفى الاسم ـ لسبب غير مبرر فنيا ـ وكان يجب ان يظل بلا اسم كي يمنح حضوره بعدا أعمق ظل متعلقا بالامكنة الاولى، حتى ان المكان في لحظات الخيبة يكون تعويضا عن الخيبة بالانسان في انحلاله
 لدى العودة الثانية للنص وجدت ان سقوط حماده وتحوله الى قواد بعد الاحتلال كانت جذوره قديمة من زمن الهور، اي قبل الخروج الى التيه، كما لو ان حماده ظل يحلم بمهنة تدر ربحا مهما كان الثمن ـ وكثيرون من خارج الرواية دخلوا الهور وقادوا تمردا مسلحا ثم اسفر تاريخهم عن سقوط اخلاقي مروع بعد زوال القناع السياسي وتحولوا من تجار" ثورة  مسلحة في الهور" الى "تجار معارضة سياسية" للاحتلال وقبضوا وباعوا واشتروا، بل أنني اعرف بعض هؤلاء مدوا جسورا مع كتاب ومثقفين معادين للاحتلال مستغلين هذا الموقف وحين تأكد لهم ان هؤلاء " بضاعة" غير قابلة للبيع والشراء تركوهم في اول منعطف، وصاروا منظرين" لليسار الجديد" مع ان بعضهم كان في كل العصور، من عصر الهور الى عصر الفاشية الى عصر الاحتلال، يبيع ويشتري باسم الثورة المسلحة واليسار والوطن والحرية: بمعنى اننا مسافرون الى زمن وغد آخر على يد نخبة متربصة كضباع الفطايس وتحت الشعارات نفسها ـ تعبير كنا استعملناه في رواية" عزلة اورستا ـ سرقوا الوطن، سرقوا المنفى " وهذا ما حصل مع الاسف
هل كان الياسري وشنغاب والسيد جبر سيقتلون لو ان الكاتب غير من طبيعة البناء الروائي؟ هذه وجهة نظر بنيوية محيرة: مثلا ماذا كان سيحدث لو ان الكاتب  قال ان شنغاب اخذ مشحوفا وخرج من الهور نهائيا واختفى في المدن أو المنفى بدل قوله ان الرصاص مزق جسد شنغاب؟ هذا المنعطف في البناء اللغوي هل هو ممكن؟ قيل مثلا ان مأساة دون كيشوت لسرفانتس هي في البنية اللغوية المعقدة في الرواية، لكن دون كيشوت يملك" خيارات" ومن ثم يملك حرية ويملك امكنة وهذه امور غير متوفرة لشهداء محطة براماتا: انهم محكومون بالحياة في الهور والموت فيه ولا ينفع معهم اي تحوير لغوي ابدا. ان شنغاب يقاتل قوى حقيقية  وليس طواحين هواء على طريقة سرفانتس
لكن بالمقابل هل  كان من الممكن تغيير مصير حمادة؟ ولماذا حين كان حماده في المكان الاول، الهور، لم يمارس هذه الحرفة التاريخية؟ ام انه مارسها سرا على نحو  اخر؟ هل المكان الجديد المفتوح، مكان الخيارات والحرية، قد فجر" مواهبه" الجديدة، أم انه محكوم كالياسري ورفاقه بالموت في الهور، فهو محكوم بالسقوط؟ هل هي حتمية؟ هل المكان المفتوح يعري كالمكان المغلق؟ هل السقوط تجربة أم مصير سري؟ ليست هناك اجابات ولكن هناك اسئلة دائما
يظهر الراوي مرة خافتا دافئا كنشيد سري أو كملامح  وجوه الاطفال عند النوم، ومرة شعاراتي، حائطي، وقد أوشك مرات غير قليلة بالحديث السياسي المباشر عن الدكتاتور وحزبه وجيشه أن يفسد النص ـ كتبت 8 روايات لم اذكره بالاسم وكنت اكتفي بصفة الدكتاتور ـ  اخذ كونديرا على جورج أورول انه" كاتب سياسي" في رواياته وخاصة روايته الشهيرة: 84وانه يسطح الانسان في بعد واحد مع ان الكائن البشري منجم رغبات ودوافع وهو  مأخذ ماركوزا على كتاب اليسار الذين سطحوا الكائن البشري في بعد واحد وحذفوه تماما. كنت اتمنى لو ان الحرز لم يمارس هذه" الرذيلة" السردية التي تحول الرواية احيانا الى خطاب سياسي فج غير مبرر
هذه الرواية نوع من الوعد والبشارة في ان" كتّاب التيه العراقي" قد وجدوا الطريق الصحيح والوعر الى الرواية الحديثة والدخول في المناطق المحظورة والحديث العلني في المسكوت عنه والمحرم والمخفي. رواية جديدة تفضح مع ان الحرز قد وضع نفسه في مواجهة مع اشباه خنازير لا يخجلون من "ممارسة" الفضيحة، ولكنهم يخجلون من "التعبير" عنها لانهم تعلموا على الجريمة الصامتة التي دفعنا جميعا، ضحايا وجلادين، ثمنها باهظا جدا
كتابات

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
التجارة الأوكرانية: العراق تعاقد مع شركة وهمية لتطوير حقل "عكاز الغازي"
امرأة عاشت قبل 75 ألف عام بالعراق.. اعادة تكوين رأس "شانيدار زد"
مؤرخة أميركية: ما تشهده الجامعات غير مسبوق "منذ حرب فيتنام"
يعملون في عيدهم.. 1 أيار "يوم بلا فرحة" لعمال العراق
التغير المناخي "يُهجّر" 100 ألف عراقي من مناطقهم
مداهمات واعتقالات في جامعة كولومبيا.. والسبب غزة!
كيف أصبح الأول من مايو عيداً لعمال العالم؟
بعد سنوات من التعثر، هل ينجح العراق في إنجاز طريق التنمية؟
ردود فعل حادة بعد إقرار "قانون المثلية الجنسية" في العراق
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
ندوة اللجنة الثقافية في الإتحاد الديمقراطي العراقي في كاليفورنيا
البرلمان العراقي يمرر قانونا يجرم "المثلية الجنسية"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة