الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
قراءة لرواية محطة قطار براماتا - 1
الأربعاء 31-12-1969
 
 حمزة الحسن
عالم رواية محطة قطار براماتا  ـ وعنوانها الفرعي ((مرايا لاشباه الخنازير))  ـ للكاتب عبد اللطيف الحرز . يغطي المساحات والفجوات والفراغات التي ظلت مخفية عن التناول الروائي وحتى السنوات الاخيرة،

وهذه المناطق المعتمة والمغيبة والتي اخذت شكل القداسة السياسية والدينية والاجتماعية والاخلاقية هي ما يحاول الحرز في هذا النص الروائي الشديد التكثيف والبهاء والجرأة كشف اللثام عنه وتفكيكه خلافا لما تعودنا من قراءات تعرضت للمأزق العراقي من الخارج، أو تناولته من خلال الآني والعابر واليومي والسطحي والشعاراتي، مرة بالحماسة المفرطة والوطنية الفجة ومرة أخرى بالادانة العاجلة التي لا تتطلب مشقة البحث ولا تحليل المواقف والاحداث والبحث عن الجوهري في العابر، والثابت في الزائل، والمتحرك في الساكن، لأن سردا أو تحليلا من هذا النوع يتطلب أكثر من الحماسة، بل يتطلب أكثر من الوطنية الى ما هو جوهري في الرواية وهو اللغة والبناء والسرد الروائي وسواه من شروط الرواية الحية
في محطة قطار براماتا نحن أمام حشد كبير من الشخصيات والمصائر والمواقف والانماط البشرية العراقية وهي تساق الى مصيرها بقوة السلطة أو سلطة القوة، أو تختار هي مصيرها لكنها تتحطم في مواجهة قوة كبرى باطشة رغم مقاومتها الاذلال والانحدار والتردي كما حصل مع هادي سيد جبر وشنغاب ومحمد هني الياسري الذين قرروا البقاء في الهور والموت فيه وعنه حتى صاروا جزءا من بنيته العضوية وتحولوا في ضمير الراوي  في الوطن والمنفى، الى رمز ومثال وصوت: صوت يصرخ في لحظات سقوط الرجال والنساء في الخيانة أو الرذيلة أو الصفقة، أو النماذج التي تعلن سقوطها المدوي في اقرب فرصة حين تحول المناضل أو المجاهد حماده الى صاحب مبغى في استراليا بعد انهيار الاحلام التي ظهر ان حماده كان متمسكا بها كوسيلة خلاص من بؤسه الشخصي الذي كان ينجح في منحه فضائل وطنية كبيرة وتحول حتى اسمه من حماده الى مايكل في الوقت نفسه الذي تحول اسمه قحبته من صفية  الى صوفيا وصارا يمارسان دعارة علنية في المنفى الاسترالي في حين يقف الراوي، رفيق حماده في الهور والمنفى والحلم، مبهورا امام هذا التدهور السريع الذي لم يكن مباغتا رغم انهما كانا في الهور نفسه، وفي المكان الايراني نفسه، والاسترالي نفسه، بل من حملة البندقية نفسها
والرواية تغص بحشد من الثوار والمعممين والفارين من الخوف والمعارضين لسلطة النظام السابق، حيث تتداخل وتندمج السلوكيات والاخلاقيات وحتى المصائر في انقلاب فوري في الظاهر وتتكشف الشخصيات الحقيقية التي كانت تبرع، عبر السياسة، في خلق الواجهات والاقنعة، كما لو ان سقوط النظام كان اعلانا بسقوط مشابه للطرف الاخر الذي أسس وجوده وسمعته وموقعه من خلال" دور" معارضة سلطة وحشية، توضح في النهاية انهم لم يكونوا مختلفين عنها الا في الشكل، لان عقلية الغنيمة والحيازة والملكية وعقلية الثأر والمحو هي ، هي، هنا وهناك
يقف  الراوي مرة بعيدا نسبيا عن هذا السقوط المريع كي يرى بوضوح، ومرة اخرى يكون في قلب هذه الفاجعة، لكن المفارقة تكون ان الرؤية تكون أوضح حين يجد نفسه وحيدا وأعزل في محطة قطار براماتا في سدني التي صارت مكان الحلم الثاني بعد مقبرة شيخان في مدينة قم الايرانية" لم يكن في مدينة قم الايرانية مقهى نلوذ به من احلامنا، كنا نجتمع في مقبرة شيخان"، وحين تتحول المقبرة الى مكان الحلم الوحيد بكل ما في هذا المكان المغلق من تداعيات، يمكن أن يتوضح لنا ضيق العالم باحلام لم تعد تجد مكانا للاجترار وليس التحقق سوى مقبرة، لكن على الطرف الاخر لماذا محطة قطار براماتا صارت تعويضا عن مقبرة شيخان؟
 سواء في المقبرة أو في المحطة يكون عالم الهور بطيوره وبشره وطبيعته وبراءته وفتوته واحلامه البكر حاضرا بل أكثر حضورا من المقبرة ومن المحطة، لأن هذا الحضور يكتسب قوته ومعناه ليس من صلابة الشواهد الرخامية ولا من بناء المحطة بل من الرمز والامل والحلم: ان الخروج من الهور شكل طردا جديدا لمعصية تاريخية لم ترتكب. ادم العراقي الجديد يطرد من الجنة بعد فشل ثورة مسلحة من دون حواء ولكن مع رفاق درب بعضهم مات وظل حيا ـ هادي السيد جبر، شنغاب، محمد الياسري، وبعضهم خان ومات في الحياة وصار قوادا في منفى بعد ان تحولت اخلاق الشطارة بعد سقوط النظام الى عقيدة جديدة وتطور ذكاء الغنيمة بشكل مفرط على حساب موت الضمير
ان محطة قطار براماتا ليست مكانا لاستذكار خيبة الحلم كما يمكن ان يبدو لاول وهلة ، ولكنها محطة للأمل لان صور الشهداء هي التي ترتفع على ضجيج المحطة، كما لو أن الراوي على موعد مع الغياب، مع الياسري وشنغاب والسيد جبر الذين قتلوا في الهور لكنهم ظلوا احياء في عقل ووجدان الراوي الذي يبحث عنهم في الاماكن المغلقة ـ المقبرة، المحطة ـ أو في الامكان المفتوحة حين الهروب عبر" البحر" من اندونيسيا الى استراليا، وحين يردد الراوي اعتذاره للهور وهو يبحر في قارب مهربين نحو الاراضي الجديدة لكنه يشعر بغصة ترك رفاق الامس ينزفون وموتى في هور اسطوري وحقيقي في ان لم يخرج منه ابدا ولن يخرج
كل هذه المنافي هي احتيال على النفس وهروب باطني من مواجهة حقيقة ملتبسة: خسارة الهور. وخسارة الهور بالنسبة لمعيدي ـ كما يمزح معه حماده المناضل السابق والقواد الجديد بعد الاحتلال ـ خسارة طائر مائي للماء، لأن المعيدي خارج الماء هو مشروع خيانة ليس بالمعنى السياسي ولكن بمعنى انه قد يكون قابلا لكل اشكال النسيان والغواية واغراءات اليابسة وخذلان الحنين: فمن لا يصرعه الموت، يقتله الحنين
صحيح ان حماده صار ثريا مثله مثل غيره الذين عادوا الى سمل وطن وحولوه الى انقاض وسرقوا ما لم يسرق وقتلوا من لم يقتل واغتالوا ما تبقى من احلام، لكن صوت الياسري في موته، وشنغاب في نزيفه وموته ايضا، وصوت السيد جبر هو الحاجز الاكبر من السقوط الاكبر: سقوط الضمير وسقوط الامل، وهؤلاء يقومون بوظيفة اعادة دفة السفينة الى الراوي حين تختل تحت عنف وشراسة انحدار بعض الاحلام: هؤلاء في موتهم يرفعون الشراع، في حين تحول المناضل حمادة وشقيقه ايضا وغيرهم من زعماء ورجال دين ومثقفين الى النقيض أو بتعير أدق عادوا الى صورتهم الاصلية التي اخفوها عن الناس وعن انفسهم رغم سماكة الطلاء وكثافة الاصباغ والخطابات
فالسلطة ليست جيشا وشرطة ولكنها عقلية ونمط تفكير واسلوب حياة وخطاب ايضا، لذلك انتج الاحتلال اغرب مفارقة في تاريخ شعب: سقوط متزامن للقوى المضادة ، بل ان هذه تداعت بسرعة أكبر من تداعي السلطة. السبب ان سلطة الامس لم تكن تحتاج سوى الى  قوة أكبر لكي تتداعى، أما  سقوط معارضيها ـ وهنا المفارقة ـ فلم يكن يحتاج سوى الى سلطة. بكل بساطة وبدون تعقيد، لأن السلطة كصعود الجبل أو عبور النهر أو النوم مع جسد بري مشتعل: يكشف الطاقة الخفية
اذن اين ذهب دم الياسري وشنغاب والسيد جبر وحشود الشهداء؟ دمهم لم يتحمله غير هذا النص، صاروا بكل أمانة في رقبة الراوي: اذا لم يكن ممكنا انقاذهم من موت وشيك ومحقق كان من اختيارهم الى حد ما، فلا بد من انقاذ الحكاية، لأن خسارة الحكاية خسارة الأمل ويصبح دم هؤلاء منسيا وهي الخسارة الكبرى: هؤلاء هم حشد من الامال والاحلام المغتالة. سلطة الامس قتلتهم وسلطة اليوم سحقتهم حين باعت حلمهم، والحلم اليوم في ارض شنغاب، ارض القصب، صار يباع ويشترى وله سعر وحجم وثمن والخ وهلم جراكأية بضاعة اخرى
اذن محطة قطار برامتا هي نشيد وذكرى، سكين وجرح، صوت ونبوءة، أمل ومقبرة، عمائم مزيفة واخرى تحمل ضوءا، مثقفون من كل الانواع، باعة ملابس مستهلكة وباعة مشاريع، حكومات انقاذ وطني على مقربة من سوق الجواري الجديد، وموت مرتجل، مقابر حية ، واحياء صارت مقابر. ثم الى اين يا عبد اللطيف وهذه اخر المنافي؟ قل الى اين؟ والذين طاردوك في الهور وقم وسدني والزبير هم انفسهم في كل مكان حتى في الحلم والسرير والمائدة والحريق. ثم الى اين؟
قد يكون حلم الياسري والسيد جبر وشنغاب تعويضا عن خسارة أكبر، لكن كيف يمكن بناء حلمهم حقا؟ هل تنفع الذكرى والحكاية وانت تعرف ان الذكرى لم تعد تنفع لا المؤمنين ولا غيرهم؟ مع كل ذلك ليس سوى الحكاية سواء في محطة قطار براماتا أو في مقرة شيخان أو في سرير عابر لجسد عابر في زمن الاوطان العابرة والمشاريع العابرة. كل شيء عابر. انه اذن زمن العبور من الزبير الى قم الى ماليزيا الى سدنى الى الهور مرة اخرى
 لكن تبقى المسافة هائلة بين عبور وعبور: بين من عبر الحد الفاصل  ـ وهو رقيق كشغاء البكارة ـ بين الخيانة والحب وصار رمزا، وبين من عبر الحد الفاصل بين الوطن والغنيمة فصار قوادا سواء على جسد صفية الامس أو صوفيا اليوم أو على جسد وطن يرتعش ذلا من رأسه الى حد القدم
هل كان الياسري سيقتل في الهور مع شنغاب والسيد جبر لو تحكمت قليلا في البناء اللغوي؟ البنيويون سيقولون ان من قتل هؤلاء ليس رصاص السلطة بل البناء الروائي. كيف تجرأت على قتل الابطال الذين تحبهم وتريد اقامة دائمة في منفى جديد؟ وماذا  سنقول لهم، على رأي الطاهر وطار، لو عاد حشد الشهداء غدا؟ ولماذا اعطيت مرايا لاشباه الخنازير مع ان الخنازير الحقيقية غير قادرة على رؤية صورتها لا في المرآة ولا في الوحل؟

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
التجارة الأوكرانية: العراق تعاقد مع شركة وهمية لتطوير حقل "عكاز الغازي"
امرأة عاشت قبل 75 ألف عام بالعراق.. اعادة تكوين رأس "شانيدار زد"
مؤرخة أميركية: ما تشهده الجامعات غير مسبوق "منذ حرب فيتنام"
يعملون في عيدهم.. 1 أيار "يوم بلا فرحة" لعمال العراق
التغير المناخي "يُهجّر" 100 ألف عراقي من مناطقهم
مداهمات واعتقالات في جامعة كولومبيا.. والسبب غزة!
كيف أصبح الأول من مايو عيداً لعمال العالم؟
بعد سنوات من التعثر، هل ينجح العراق في إنجاز طريق التنمية؟
ردود فعل حادة بعد إقرار "قانون المثلية الجنسية" في العراق
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
ندوة اللجنة الثقافية في الإتحاد الديمقراطي العراقي في كاليفورنيا
البرلمان العراقي يمرر قانونا يجرم "المثلية الجنسية"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة