الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
بطة في الوحل
الأربعاء 31-12-1969
 

قصة : أسحاق  بابل
ترجمة : زعيم الطائي
المؤلف: قبل لحظات من أعدامه عام 1940أبان الحكم الستاليني ،قال أسحاق بابل متوسلاً جلاديه ( أتركوني لأكمل عملي ) ، وهكذا بعد حياة قضاها كجندي بسيط على الجبهة الرومانية في الحرب العالمية الأولى ، ومقاتلاً في صفوف الحرس الأحمر ، ومنفياً الى سيبيريا .
،لاقى حتفه بعد فترة قصيرة من موت صديقه مكسيم غوركي المشكوك بقتله أيضاً ، والذي علمه التوجه الى الحياة والناس ليكتب عنهم أقاصيصه  . نشأ بابل في أسرة يهودية في ميناء أوديسا على البحر الأسود ،وأكمل دراسته الجامعية في العاصمة القديمة بطرسبرج، نشر له مايكوفسكي أول أقاصيصه في مجلته ، وتكونت له صداقات عديدة مع أهم الكتاب الروس ومنهم أيليا أيرنبرغ ، والمخرج أيزنشتاين الذي  كتب له سيناريوهات بعض أفلامه ، ترك عدة مؤلفات مهمة في المسرح والمذكرات ومجاميع كثيرة في القصة القصيرة منها (الفارس الأحمر ) (قصص أوديسا) و(سنوات العزلة ) كما أنه ترك العديد من المشاريع الروائية لم تسنح له الفرصة لأنهائها .  المترجم
نهض سافتسكي قائد الفرقة الخامسة من مكانه، حينما لمحني قادماً ،أدهشتني قامته المتناسقة وجسده العملاق، قام منتفضاً،ببنطلون الركوب الأرجواني ، وقبعته القرمزية المائلة،كانت النياشين تزخرف صدريته وتخترق بألوانها فضاء الكوخ كرايات معلقة بين أركان سماوية ،مع رائحة طيبة من عطر صابون كان أريجها ينبعث من ناحيته ،رجلاه طويلتان مثل ساقي فتاة مغمدتان كل منهما في رقبة جزمة لامعة . وضع السوط على المنضدة وقد علا  وجهه الأبتسام،وهو يسحب قائمة الأوامر التي أملاها تواً على رئيس هيئة الأركان ،أنها أوامر  لأيفان شسنكوف بالتقدم نحو شاجانوف دوبريفودكا مع عهدة كتيبته ،للألتحام بالعدو وتدميره نهائياً  .(دماراً تاماً ) بدأ القائد بالكتابة ، مسوداً غالبية الصفحة ،(لافرق عندي ، أنها مسؤولية شسنكوف الكاملة ،وهو من يفرض العقوبة القصوى متى أراد ،ويختار أرض المعركة التي يراها ضرورية ،تعرف شسنكوف دون شك ،خدم معي في الجبهات قبل عدة أشهر) وقع الأمر مزهواً ،ورماه الى المراسلين من حوله ،ثم أدار نحوي عينيه الرمادييتين المتراقصتين بجذل  ،سلمته ورقتي مع قائمة  المهام ووظائفي مع طاقم فرقته ،( ضعها حسب تواريخ أيامها )قال ( أرفق معها الترضيات التي حصلت عليها في المقدمة ،هل تستطيع القراءة والكتابة ؟)( نعم ، أنا أقرأ وأكتب ) أجبته مثيرأً الحسد في ذلك التورد والصلابة التي تملأ شبابه (تخرجت في القانون من جامعة سانت بطرسبرج)( أوه ، هل أنت من أولئك المنسحقين المنكبين على الدرس؟) ضحك( بنظارة فوق الأنف أيضاً، ياله من شيء سخيف ، أرسلوك كل هذه المسافة بلا تفهم ،وهذه أكثر المناطق خطراً  وسخونة  لمن يرتدون النظارات ، تصور أنهم سيرمونك  معنا هنا ؟)( أنا مرمي معكم بالفعل) أجبته ،ثم غادرت مع عريف التموين الى القرية كي أدبر سكناً للمبيت وقت الليل .  حمل العريف صندوق أمتعتي  على كتفيه ، حيث أمتدت أمامنا طرقات  القرية ،صار قرص الشمس الغاربة ،أصفر متكوراً كاليقطين ،ثم أسلم أمره بتفاؤل كطيف تائه لفراغ السماء  .توقفنا أمام كوخ يتميزخارجه بالطلاء ،علقت بضعة أكاليل زهور عند بابه ،  قال العريف  فجأة مع أبتسامة تشي بالذنب .( نويسة بنظارات هي الأخرى ، لاتقدر بدونها أيضاً ، لكنها أمرأة طيبة ، ستجد الأولاد يطبطبون  على ظهرك  حالما يرونك ) تردد قليلاً في الدخول ،وأمتعتي القليلة على كتفه، بعد ذلك أخذ يتقرب  مني بهدوء ،ثم أندفع قانطاً بأتجاه الساحة القريبة ،كان هناك مجموعة من القوزاق يحلق أحدهم ذقن الآخر .( هاي ، أيها الجنود ) قال العريف وهو ينزل أمتعتي  أرضاً ،(بأمرالرفيق سافتسكي يسكن هذا الشاب في نزلكم ، دون جدال أو هراءات ، لكونه من المتعلمين القلائل في خطوطكم)غادرنا العريف بوجه محمر دون أن يلتفت الى الوراء ، رفعت يدي لطاقيتي محيياً القوزاقيين ،تقدم صبي بشعر طويل أشقر ووجه وسيم من قوزاق ريازان سحب أمتعتي ملقياً أياها عبر البوابة ،وأعطاني ظهره مصدراً صوتاً ضاجاً بشكل لافت و مثير للقرف   . صرخ به رجل هرم ( الى سلاحك رقم صفرصفر )  وقد أغرق في الضحك ( أطلق النار )أدى مشهده بمهارة مصدراً سيلاً من الأصوات الماكرة كأنها تأتي من عادم عربة، ثم عاد زاحفاً الى مكانه ،فبدأت بجمع البقايا من  مخطوطاتي الورقية وملابسي المهلهلة المتساقطة مع أغراضي المرمية ، وضعتها جانباً عند أحد أركان الساحة . قريباً من الكوخ ، فوق  فرن الآجر ، ثبت قدر معدني كبير يطهى عليه خنزير،تصاعد منه البخار كدخان  بعيد يعلو منازل قرية نائية  ،أختلط في ذهني بمشاعر الجوع ووحشة العزلة والحنين . عندذاك غطيت أمتعتي القليلة المجعدة  بالتبن والدريس ،جاعلاً منها وسادة ، أستلقيت على الأرض لأقرأ خطبة لينين في المؤتمر الثاني للكومنترن في صحيفة البرافدا ، وضوء الشمس يتساقط فوقي عبر تلال الصنوبر المسننة ، داس القوزاق على أقدامي ، أستهزأ بي الصبي عند مروره متعمداً ،أخذت  خيوط الشمس الحبيبة تقترب متعامدة  بأتجاهي وقد أخترق نورها الممر الشائك،لكنها لم تستطع الوصول ناحيتي،     عندها ألقيت بالجريدة جانباً وهرعت نحو السيدة  صاحبة النزل أثناء ماكانت  تغزل  عند العتبة  . ( سيدتي  ،) قلت ( أنني جائع ) رفعت المرأة العجوزعينين ساهمتين أختلطت ببياضهما الحمرة ثم عادت الى خفضهما ثانية  .( رفيق  ) قالت بعد فترة من الصمت ( مالذي ألّم بهؤلاء ، أنا ذاهبة لكي أشنق نفسي)(ياإلهي ) تمتمت ،ودفعتها بقبضتي عند صدرها ،( كيف تريدنني أن أوضح لك ذلك حسب رأيك ؟) وحالما ألتفت جانباً ،شاهدت سيف أحدهم ملقى  في الداخل بمتناول اليد ، وبطة منفردة  بوجه عابس  ،تخوض في وحل الباحة ،وتسوي ريشاتها بتباه كريه ، لحقتها بمباغتة سريعة ، ضربتها في الأرض فتصدع رأسها عند حذائي ،فارغاً ،وأشرأب عنقها الأبيض متمدداً فوق الروث ،بينما أخذت أجنحتها بالأنتفاض  .( ياللمسيح) قلت وأنا أطعن البطة بطرف سيفي (أذهبي ,وأطبخيها من أجلي ياسيدة )برقت نظارتها وعينيها ضعيفتي البصر ،التقطت البطة المذبوحة ، وراحت تمسحها بمريلتها ،ثم حملتها الى المطبخ .( رفيق ) نادتني بعد هنيهة (أنا ذاهبة لأشنق نفسي) وأغلقت الباب الى جانبها .أتخذ القوزاق مجلسهم  حول القدر المعدني ،بلا حركة ،جامدين  ككهنة بدائيين يقدمون قرباناً. دون أن يلقوا نظرة نحو البطة  .( الولد جيد ) قال أحدهم غامزاً بعينه ، وهو يغرف حساء الكرنب بملعقته .  تشارك القوزاقيون عشاءهم  بلياقة متناهية وقد كبحوا جماحهم  كفلاحين يتبادلون الأحترام بعضهم  للبعض الآخر ، ذهبت لأمسح السيف بالرمل وأتجهت نحو البوابة ، ثم عدت ثانية كدراً ،كان القمر قد شغل صفحة السماء فوق الساحة كقرط  رخيص الثمن  .(هي ، أنت ! ) قال سوروفكوف أكبرهم سناً فجأة  ،( أجلس وشاركنا الطعام ريثما  يتم طبخ بطتك ) أخرج ملعقة أضافية من جيب معطفه ، ناولها لي ، فشربنا  حساء الملفوف الذي صنعوه وأكلت معهم  لحم البورك المطبوخ  .( ماذا تقول الجريدة ؟ ) سأل ذو الشعر الأشقر وهو يترك لي متسعاً للجلوس ،( لينين ، كتب في الجريدة ) قلت ، ساحباً البرافدا ( كتب لينين قللوا ماوسعكم في كل شيء ) وبصوت عال كرجل ثقيل السمع منتش بنصره ،أكملت قراءة خطبة  لينين على القوزاق ، حتى لفنا المساء برطوبة الغسق المتعجل وأنغمرت جبهتي الساخنة بالندى ،كيد ِ  أم رؤوم  وقت الليل ، أستمريت بالقراءة مسروراً أستطلع ببهجة كل ما تخبئه كلمات لينين بين ثناياها من منحنيات سرية وأتجاهات . ( الحقيقة تزغزغ مناخر الجميع ) قال سوروفكوف  حينما وصلت الى النهاية (المسألة هي كيف تغترف من الكدس ، لكنه ذهب مباشرة فأصاب ، كما تلتقط الدجاجة حبات الحنطة ) ،كانت تلك ملاحظة سوروفكوف آمر أحد فصائل سرية القتال حول لينين .
بعد أن عمدنا الى الأضطجاع في كوخ القش ، غمرنا النوم جميعاً ، نحن الستة ، تحت السقف الخشبي دون أن يعيقنا شيء عن مرأى  لمعان النجوم ،متدفئين بملامسة أقدامنا جميعاً ، حلمت ، تبدت لي في الحلم أمرأة ، لكن قلبي أصطبغ وقتها بصفحة من دم مسفوك راحت  تفيض وتتناثر أمامي من كل صوب 

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
التجارة الأوكرانية: العراق تعاقد مع شركة وهمية لتطوير حقل "عكاز الغازي"
امرأة عاشت قبل 75 ألف عام بالعراق.. اعادة تكوين رأس "شانيدار زد"
مؤرخة أميركية: ما تشهده الجامعات غير مسبوق "منذ حرب فيتنام"
يعملون في عيدهم.. 1 أيار "يوم بلا فرحة" لعمال العراق
التغير المناخي "يُهجّر" 100 ألف عراقي من مناطقهم
مداهمات واعتقالات في جامعة كولومبيا.. والسبب غزة!
كيف أصبح الأول من مايو عيداً لعمال العالم؟
بعد سنوات من التعثر، هل ينجح العراق في إنجاز طريق التنمية؟
ردود فعل حادة بعد إقرار "قانون المثلية الجنسية" في العراق
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
ندوة اللجنة الثقافية في الإتحاد الديمقراطي العراقي في كاليفورنيا
البرلمان العراقي يمرر قانونا يجرم "المثلية الجنسية"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة