فيصل عبد الوهاب
القاص فرج ياسين نوع نادر من الأدباء الذين دأبوا على ارتياد مناهل الحقيقة وكرسوا حياتهم لخدمة قضية الفن الكبرى كالمتصوفة الزاهدين الذين لا يرون من الحياة قشورها ولا يقتنصون منها إلا لباب الجوهر .

صدرت له الكتب التالية : (حوار آخر 1981 ) قصص ، (عربة بطيئة 1986) قصص ، (واجهات براقة 1995 ) قصص ، ( توظيف الأسطورة في القصة العراقية الحديثة 2000 ) نقد ، (ذهاب الجعل إلى بيته –قصص قيد الطبع) ، وآخر ما صدر له المجموعة القصصية (رماد الأقاويل 2006 ) . سأنتقي عددا من القصص التي يمكن الاشتغال عليها فنيا من هذه المجموعة ولا التزم بالتسلسل الذي وضعه القاص فرج ياسين فيها. تطالعنا قصة((حافات السنين المدببة)) حيث يخيل للمرء عندما يقرأ بداياتها انه في الطريق إلى تسجيل قصة وفاء أسطورية على نمط ملحمة الاوديسا عندما تنتظر بنيلوبة زوجها المغامر اوديسيوس حفنة من السنين ريثما يعود وربما لا يعود ولكن القاص هنا يصدمنا بالنهاية التي تنزلنا من عالم الأساطير إلى عالم الواقع لأن المرأة العجوز (روفة) التي صبرت على ذكرى خطيبها الغريق كل هذه السنين فجرت صبرها بنزوة كان يمكن أن ترتكبها مع الصبي الذي تخيلته خطيبها المعشش في ذاكرتها. إن القاص هنا يتعمد كسر الأسطورة بطريقة تخبرنا بضرورة الانصياع لمتطلبات الجسد أو أنه لا مفر من ذلك وفق الفلسفة الحتمية. وفي قصة ((الأميرة والحائك)) يؤسطر القاص الواقع حتى يجعلنا نتصور أن التأريخ ما هو إلا مجموعة من الأساطير بينما تتحدث القصة عن أحداث واقعية يمكن أن نجد لها مثيلا في كل عصر وزمان. فالحائك ((ساس)) الذي تتزوجه الأميرة ليصبح قائدا للجيوش بعد التآمر على الملك وقتله بالآلة الحربية الجديدة نجد له مثيلا في كل عصر عندما يتسلق أولئك الذين لا كفاءة لهم سوى قربهم من كرسي الحكم، سلالم السلطة ويغتصبون العروش في غفلة من الزمن.. ولكن القاص هنا يوظف الدين والأسطورة في هذا السياق لإفهامنا أن الدين غالبا ما يستخدم كوسيلة للوصول إلى السلطة خاصة إذا كان الجهل متفشيا بين العامة. وقد كان القاص بارعا في استخدامه أسطورة ((اله الصواعق)) كرمز للآلة الحربية التي تبعث انفجارات تشبه صواعق طبيعية.وفي قصة ((رماد الأقاويل)) يذكر لنا القاص بشكل مباشر آلية الاسطرة في السطور التالية ضمن سياق السرد: ((وان ذلك يكفي لبعث حكاية ليس بالضرورة أن تكون حكايته بل حكايتنا. وهكذا شغلنا بترتيب الأحداث من خارج التعالق المنطقي)). وقد بين لنا القاص كيفية تخلق الأسطورة ومراحل تطورها بالمثال الذي أورده والطريقة التي سرد بها الراوي قصته بتحول الأشياء العادية إلى مقدسة بفعل الزمن أو خيال الناس. ونفهم من ذلك أيضا مدى الحاجة إلى الاسطرة وخلق الأسطورة في ظل أوضاع غير طبيعية تسودها البطالة والفراغ والتسكع في المقاهي.وفي قصة ((السيمرغ)) يؤنسن القاص طائر السيمرغ ((وهو ملك الطيور في كتاب فريد الدين العطار _منطق الطير_)) ويصنع منه أسطورة في خيال الناس. وتحمل هذه القصة ترميزا سياسيا عميقا تشير إلى حب الناس للسلطان وكرههم له في الوقت ذاته. وفي قصة ( حين تثرثر الرغبات ) يتخذ القاص من أسطورة طاقية الإخفاء كتقنية تتوهم فيها بطلة القصة لإخفاء الواقع المرير الذي تعيشه بغياب الزوج الأبدي . إن البطلة هنا تتحايل على مأساتها من خلال إيهام نفسها بهذه الأسطورة وتصدقها على أنها حقيقة تتسلى بها عن غياب زوجها . ويلعب الخيال دورا مهما في اصطناع هذا القناع السيكولوجي للتعويض عن حاجة ماسة بحيث تصبح أكثر صدقا من الواقع نفسه .وتبدو براعة القاص جلية في الاستخدام الشفيف لهذه التقنية حيث تبعدنا تماما عن لغة الخطاب المباشر التي نلحظها كثيرا في قصص من هذا النوع لترقى بنا إلى المدارج العليا للفن القصصي . ومن القصص الموحية الأخرى قصة ( اعتصام) التي تنتقد الفوارق الطبقية بطريقة شيقة فأطفال الأغنياء يهبطون من سياراتهم ليتسوقوا ما لذ وطاب من المعارض التجارية ثم يرحلون في الوقت نفسه حين يهبط أطفال الملائكة ليقوموا بالدور نفسه ويرحلون أيضا في حين يعتصم أطفال الفقراء أمام واجهات المعارض ولا يرحلون لأنهم بكل بساطة لا يملكون نقودا للشراء . وقد وظف القاص العنصر الخارق أو الأسطوري أو الديني – سمه ما شئت – وهم الأطفال الملائكيون بطريقة توحي بنقد مبطن للآلية التي تقف خلف هذه العناصر حيث ساواها مع طبقة الأغنياء في إهمالها للدور الاجتماعي المناط بها . ويوحي القاص هنا بالفكرة القائلة بتحالف الطبقة الغنية أو الحاكمة مع القائمين على الدين وسدنته لاضطهاد الطبقة الفقيرة كما عبرت عنها الأدبيات السياسية اليسارية . وتبدو الفكرة الدينية هنا مبطنة إلى حد ما ولكن القاص يتناولها بشكل سافر ومتطرف في قصة ( قسوة ). ففي هذه القصة يوحي لنا القاص أن البشر أشد طغيانا وظلما على بعضهم بينما تتجلى الطيبة والرحمة في الرب الذي يرسل ملك الموت ليقطف أرواح بعضهم بطريقة رحيمة لا ترقى إلى طريقة البشر البشعة في ذلك . وهنا يدخلنا القاص في مغالطة حقيقية لأن البشر لا يمكنهم إزهاق أرواح بعضهم إلا بإرادة ومشيئة الرب نفسه لا مشيئتهم . وفي الإطار الديني نفسه تمثل قصة ( الخروج ) التوق الصوفي بما تطرحه من رموز تعزز هذا الدور كالدرويش والحمامتين بحيث يمكن أن نفهم أن انطلاق الحمامتين من القفص بإرادة الدرويش يمثل انطلاقة الروح إلى رحابها وعودة الحمامتين لتحطان على يدي الراوي تمثل استقراره الديني وثبات إيمانه . وفي إطار الترميز السياسي تبرز قصة (بيوت الأخوة العرب ) التي أحدثت ضجة كبيرة في وقتها حين نشرت لأول مرة في مجلة ( آفاق عربية ) العراقية . يوظف القاص الفتاة الفلسطينية كرمز للقضية الفلسطينية التي تنتقل بين أحضان الأخوة العرب بالتزامن مع توظيفه لكرة القدم ليوحي باللعبة السياسية التي تتحكم بالقضية . ولا نعرف شيئا عن المدينة التي جاءت منها الفتاة سوى قدومها من مدينة تشتهر بالبرتقال وهذا يدعونا إلى التخمين بأن ( يافا ) هي المدينة المقصودة . وهذا معناه أيضا أن المقصود بذلك مشكلة فلسطين منذ نشأتها قبل قيام إسرائيل وبعدها أيضا . وربما يلقي القاص باللائمة على العرب في ضياع فلسطين .والقصة الأخيرة التي نتناولها في هذه المقالة هي قصة (رهاب المدن ) بما تطرحه من فكرة تقترب من الحلم الرومانسي في مغادرة المدينة والأنعتاق من عذاباتها وانشغالاتها اليومية . ويوظف القاص طائر الرخ الأسطوري كجناح خيالي يمتطيه بطل القصة نحو الخلاص .أما القصص الأخرى المتبقية فلم نجد فيها ما يمكننا الكتابة عنه إما لوضوح بعضها ومباشرتها أو لإشكالية بعضها وغموضها