الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
أطياف الصبا وحياة التشرد في رواية عراقي في باريس
الأربعاء 31-12-1969
 
كاظم الحلاق
في الشرق الأوسط يتمرغ الإنسان تحت وطئة أطياف كثيرة من الكبت لا مجال لذكرها هنا. وهذا ما نقله لنا صموئيل شمعون في روايته " عراقي في باريس" أخته شاميران تجرح أصابعها واحدا بعد الآخر متظاهرة أمام أهلها بان ذلك يحدث أثناء إعدادها للطعام.

بينما هي في الواقع تريد ان تلتقي بالممرض نيكلوس الذي يعمل في مستشفى الحبانية العام ليقوم هو بدوره بإبداء اهتمامه بجسدها. الشعور بالعار والخوف من العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة هو ما يغيض الرجل الشرقي ويولد في ذهنه عقدا متعددة ومركبات نفسية تستنزف طاقته الحيوية وتجلعه غير سليم من الناحية النفسية والجسدية . بعد ان تتكرر زيارة شاميران المثيرة للشك إلى المستشفى، يقول الأخ الأكبر بأنهم أي العائلة سيشترون لها مطهر المكركروم والشاش لإنهاء تلك الزيارات. في قراءتي لرواية صموئيل شمعون " عراقي في باريس" بدت لي بان الرواية ترتكز على ثلاثة أعمدة هي: الطفولة وعشق السينما، التنقل والسجن في البلدان العربية، أطياف التشرد والنضوج في باريس. هذه الأعمدة غير منفصلة عن بعضها. وكل واحد منها تضمن عددا من المراكز الحيوية. عُزيِ له مظهر أو جانب من جوانب الرواية.يتعرف جويي البطل على السينما لأول مرة من خلال قرياقوس وهو في الخامسة من العمر، يعلمه كيف يصنع سينما الظل بإشعال شمعتين ووضعهما عند نهاية طبقة من الورق مثبتة بشكل مستقيم. ثم صناعة شخصيات مقصوصة من قطعة كارتون وبتقريبها او إبعادها عن الورقة يمكنه تكبير او تصغير الشخصيات.هذه البذرة ستنمو بسرعة لتستحوذ على ساحة وعي الطفل- البطل الذي كاد ان يتعرض لاعتداء جنسي بسبب هذا العشق من قبل عارض الأفلام في سينما الحبانية التي يبيع بجوارها الطفل. يرى عارض الأفلام الصبي منزعجا وحزينا لانشغاله بالعمل وتضييع فرصة مشاهدة فلم نورمان وزدم، لأنهم استبدلوه بفلم جديد. يعده العارض اذا ما نظف القاعة سيعرض له الفلم بشكل خاص. وبينما يفعل الصبي مبتهجا يراوده العارض بعد ان يطفئ الضوء الا انه يعضه في معصمه بشدة فيتركه لحاله. ص170 عائلة نصرت شاه الايراني الذي يعمل لديه البطل الصبي في بيع الازبري والعمبة هي المقابل الديني لعائلة البطل الآشورية . يتحدث الراوي عن زمن يتسم بالبراءة من تاريخ العراق حيث ينظر الإنسان لأخيه باعتباره انسانا دون تميز بسبب الديانة او المذهب، كأن الكاتب يرغب في اخبارنا بان منطقة الحبانية الصغيرة كانت تمثل مركزا شاملا لمختلف الناس. ومن الممكن ان تكون الحياة آمنة وجميلة بهذا التعدد فوق مساحة صغيرة من الأرض لولا الجانب المظلم الذي تجسد في النظام الدكتاتوري. وحتى حينما تهدم بلدوزرات حكومة البعث بيوت الحبانية عام 1968 فان البطل جويي يذهب مع عائلة نصرت شاه بدلا من أهله. هذا الحال ينطبق ابضا على شخصية أخرى جاءت مع الجيش البريطاني الى الحبانية، أعني رفيق الهندي الذي استقر هناك . إن ارث العلاقات الذي يحمله صموئيل في لا شعوره هو ارث ذكوري. ارث يرمز لفعل الخلق والإرادة. ارث يمتد بجذوره إلى رغبة الملك الآشوري جلجامش في الخلود وصداقته بانكيدو. نتعرف على أولى علاقات الطفل بالعالم الخارجي الذكوري عبر الأب كيكا، ومن ثم في نموذجه ومعلمه قرياقوس ونصرت شاه الذي يعمل الصبي لحسابه ثم ولديه علي وإبراهيم.الجانب الانثوي في خيال الطفل يتمثل في الأم كرجية، والأخت الكبرى شاميران وسكينة زوجة نصرت شاه ومن ثم يتجسد بعلاقة عاطفية خارج نطاق الأسرة او العمل. العلاقة بنسرين الذي يهتم جويي بها كثيرا لدرجة انها كادت تنسيه وتسحبه من منطقة شغفه السينما.تأتى نسرين من شمال العراق في زيارة إلى عمتها زهرة الحدائقية في القاعدة البريطانية، فتعرفها الاخيرة بالبطل الصبي، فتنشأ علاقة غرامية بينهما تجعل جويي يبتعد عن السينما فيعنفه أستاذه قرياقوس على تركه ذلك العالم المثير من اجل فتاة غبية على حد وصف قرياقوس لها.ص178.بعد علاقته بنسرين يتعرف البطل على بضع نساء في تونس ولبنان ونيقوسيا، وبكثرة في باريس. الحاجة لعاطفة الأنثى وما يتعلق بها من انغماس في الشراب والتسكع والرغبة المستحوذة في عشق السينما والتخيلات والأحلام المرتبطة بها، هما طرفا النزاع الذي يكون جسد ووعي البطل ساحة لهما. سنرى ذلك الصراع يشتد في رحلة تشرده الباريسية.يغادر البطل الحبانية العراق الى دمشق عام 1979 وهو يحلم بالوصول الى هوليود لتحقيق حلمه في صناعة السينما. في اليومين او الثلاثة الأولى من وصوله الى دمشق يشتغل في شركة تأمين السيارات ويتم اعتقاله بعد أسبوع واحد من العمل. السبب: الشك في انه جاسوس يهودي الا انهم حين يطلبون منه خلع ثيابه ليروا فيما اذا ما كان مختونا ام لا؟ يحررونه بعد ان يروا بانه غير مختون.العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة قبل الزواج ينظر لها كجريمة في المنطقة العربية وليس خطئا يمكن اصلاحه. من السهولة ان تفضي بحياة المرأة او الرجل الى الموت. وبهذا تُدمر قوة التوازن المنسابة بين هذين القطبين المهمين الصانعين للحياة. يحدث هذا لسامي في بيروت حينما يضع احد الأشخاص ماسورة بندقيته على رأسه لاعتقاده بانه هو الشخص الذي اقام علاقة جنسية او عاطفية مع اخته مست شرف الرجل صاحب البندقية.الحياة هي وعي واحد مبثوث في أشكال لا نهاية لها. فإذا نظرنا إلى هذه الأشكال باعتبارها منفصلة عن بعضها فاننا ننظر للحياة عبر وهم التجزؤ.لا يمكننا عزل او فصل وعي شخوص الرواية لانهم بأجساد او مواقف مختلفة. الكاتب الذي يضع روحه في كتابته سيصل لفح تلك الروح للقارئ. صموئيل شمعون يتحدث عن حياة التشرد والتسكع والحاجة والتحديات في مدينة كبيرة مثل باريس. لقد قدم اليها وهو يحمل معه كل ذلك الإرث الاشوري/ العراقي من الرغبات المعذّبة والأمل بخلق شيء ما جدير ببذل الجهد. بالنسبة للبطل الحلم بالوصول الى هوليود والاشتغال في السينما.ان بطل "عراقي في باريس" له القدرة على الاختلاط بكل شرائح الناس والعيش معهم. انه يصغي إليهم، يشاركهم حياتهم وأحلامهم وهذا ما جعل الرواية تتسم بالتشويق ومنقوعة في روح الشباب. ذات مرة يشارك البطل السكن مع شاب كاميروني في بيت إحدى السيدات الفرنسيات. الشاب يدرس الهندسة ويعمل في البلدية بعد الدوام. انه ينفق فلوسه على شراء الأحذية الكثيرة، لكنه يسرق طعام صاحبة البيت او يستجدي سامي السجائر والقهوة والطعام " في أحد الأيام دخلت الحديقة ورأيت صديقي يلمع ستة أزواج من الأحذية- أسود، ابيض، وبني." انه دائما يسأل سامي" لماذا العرب لا يحبون الأحذية؟". فيرد عليه سامي:" أنا أيضا لا اعرف" وبعد ان يلح بالسؤال وينفد صبر سامي يجيبه:" هل حقا تريد ان تعرف لماذا العرب لا يحبون الأحذية؟ فيجيبه الآخر:" أرجوك، اني متشوق." فيخبره البطل: " لأنهم يحبون البيرة، البصل، الرز، الطماطم، السباكتي، السجائر، الفلفل الأسود. وليس لديهم عقدة بصدد الأحذية." ص64يتحدث الكاتب عن حياة وطقوس الشراب وأسماء المشروبات. وكأنك تدخل معه وتشاركه نبض تلك الأمكنة وحميمية الحياة اليومية فيها. وستشعر على الرغم من ان البطل معوز إلا ان ثمة جمالية في حياته، والسبب في ذلك كما اعتقد، هو حينما يتماهى الإنسان او يتماثل بشكل حقيقي مع ما يعيش. على اعتبار ان ما يلاقيه من صعوبات هو مظهر من مظاهر الحياة مهما قست عليه او بدت الظروف لا تحتمل. ان كل ذلك في تبدل وتغيّر، ليس ثمة سوء حظ او حسن حظ عبر المنظور العميق للحياة. وليس هنالك أعلى واسفل ورئيس ومتشرد وجميل وقبيح وغبطة وألم. بوسعنا ان نجرب كل تلك الصفات في يوم ما طالما ان جوهر الحياة والوعي هو التبدل والحركة. ليس ثمة شيء لا يتحرك في الكون.في احدى الاماسي يتسلم سامي رسالة من الاخ تيدي، يخبره فيها بأن أباه كيكا قد مات. يمزق الرسالة ويرميها في نفايات البريد. الشحاذ فابل هو من يقوم بتعزية سامي ومواساته، عارضا عليه بعض المال من قبعة التسول ليذهب لاحد البارات لمعانقة الإحساس بالألم.في احد المشاهد المكتوبة بشكل جيد، يتحدث الكاتب فيه عن شارع بجوار إحدى المدارس في باريس يتحول اثناء الليل الى مبغى، بعد ان رأى علب الماء البلاستيكية الفارغة مرمية بكثرة تلفت النظر. فيخبر شامل البطل بان هذه القناني تستخدم للتنظيف بعد الممارسات الجنسية التي يقوم بها سائقو الشاحنات في الليل. وحينما تنزل نادية من إحدى الشاحنات وتذهب مع البطل الى احد الدكاكين، يسألها صاحب الدكان ان كان هذا قوادها الجديد؟ أحسست وأنا اقرأ هذه المشهد بان صاحب الدكان بنظراته الشريرة ونادية العاهرة وسامي وقناني الماء والسائقون والشارع كلهم مظاهر مختلفة لجوهر واحد، حب الحياة. يكتشف بطل" عراقي في باريس" عبر رحلته المؤلمة بانه ليس بحاجة إلى عبودية حب فتاة معينة، بالتالي ما ان تتم معرفته من قبلها ترغب الفتاة في السيطرة عليه فاذا وافق ستحتقره وذا ما رفض ستكرهه. وحتى الصداقات الذي هو قادر جدا على خلقها لم تحقق توازنه او ما يبحث عنه. انه يدرك بان كل ما يحتاجه يكمن في داخله، وحتى السينما واطيافها الساحرة وأحلامه بالاقتراب من جوهرها هي إسقاط لتخيلاته المبكرة بمصاحبة الاب كيكا وقرياقوس. صورة الأنثى تظل كامنة في الأعماق كحلم كما السينما. انها متضمنة في رموز الأحلام والتخيلات. ان وجودها في ذلك الحقل كاف. وبهذا تنتهي المرارات او الخيبات المتعلقة بالعالم الخارجي بعد تحويل رصاص وخشونة الواقع إلى ذهب. إلى وعي بأجزاء الذات. انسحاب إلى الملتجأ الحميمي، حرية النفس. هذه الرسالة التي تقولها رحلة العراقي في باريس.صدرت الرواية بالإنكليزية عن دار بانيبال 2005.* كاتب عراقي مقيم في أمريكا

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
التجارة الأوكرانية: العراق تعاقد مع شركة وهمية لتطوير حقل "عكاز الغازي"
امرأة عاشت قبل 75 ألف عام بالعراق.. اعادة تكوين رأس "شانيدار زد"
مؤرخة أميركية: ما تشهده الجامعات غير مسبوق "منذ حرب فيتنام"
يعملون في عيدهم.. 1 أيار "يوم بلا فرحة" لعمال العراق
التغير المناخي "يُهجّر" 100 ألف عراقي من مناطقهم
مداهمات واعتقالات في جامعة كولومبيا.. والسبب غزة!
كيف أصبح الأول من مايو عيداً لعمال العالم؟
بعد سنوات من التعثر، هل ينجح العراق في إنجاز طريق التنمية؟
ردود فعل حادة بعد إقرار "قانون المثلية الجنسية" في العراق
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
ندوة اللجنة الثقافية في الإتحاد الديمقراطي العراقي في كاليفورنيا
البرلمان العراقي يمرر قانونا يجرم "المثلية الجنسية"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة